الخميس، 7 ديسمبر 2017

لا شيء علي الاطلاق ..

من أين يأتي الحزن الذي لا مصدر واضح له ولا أسم؟ كيف يبدء؟ كيف يظهر علينا؟ هل أنا لدي فجوة في روحي يأتي منها؟ كيف يهدم المدن الجميلة التي كانت يوماً ما داخلنا و يجعلها رُكـام ، تلك المدن المليئة بالأضواء والموسيقي والشغف للمعرفة وإكتشاف الكون ، لا يوجد للحزن موسيقى لائقة و لا مزاج محدد حتى نتهيأ له قبل أن يدخل علينا بثوبه الرمادي ،فهو يأتي بغّته مثله مثل الموت والحب .

في الخريف والشتاء تطول ساعات الليل وعليه أيضا يطيل الأرق ساعات زيارته لي ، والأسوأ منه ذلك النوم المتقطع الذي يوقظني منه حلم ما أو حركة القط بجانب السرير بعد كل ساعة أو ساعتين. في الظلام أحدق وأفكر ربما كان وجودي ليس هو الا فكرة في رأس أحدهم وستنتهي حالما يهز عابر سبيل كتف صاحبها بمحض الصدفه ، كأن وجودي هو إحتمال معلق علي حافة الخيال !! أفكر ربما أن أحلامي التي أراها وتوقظني مطمئنة أو فزعة ربما حتى هي كانت تخص شخصٍ آخر في مكانٍ وزمان آخر ، عجيب هذا العقل الذي يعطي ما يشاء من تصورات لا يمكن السيطرة عليه !
 أفكر هل تعبرنا الأيام لتنتهي منا ام أننا نعبرها لنكتشفها ، كيف تنقص منا لتكتمل،  ورغم هذا لا تبدو كاملة ابداً في أعيننا، هذه الأيام السريعة البطيئة التي تنقضي بشكل أطول من اللازم وأقل من المطلوب ، تنقضي تاركه آثارها علينا كندبات لا يمكن ان تختفي ابداً ، بل أن هذه الندبات تظل تتراكم وتتراكم  بداخلك مثل التصدعات التي تتسع في المباني وتهدمها، تفعل هذه التراكمات مثلها في قلبك تماماً ، أشعر إني كمن فاته أخر قطار للآلحاق بأحلامه، عاجزه حتي عن معرفة ما الذي يتوجب علي فعله ،إنه ذلك العجز حين لا تستطيع حتى أن تصف حياتك بالخراب، عندما لا يكون هناك أصلاً ما تم بناؤه فهكذا لا يمكن أن يحدث تدميره.
أفتح مفكرة هاتفي  لأكتب شيئاً
 "ماذا فعلت اليوم؟"
لا شيء علي الاطلاق .. 
أعلق بهذه الجملة في نصف سطر وأغلق الهاتف ليعبر اليوم وينتهي.
كل شيء يحدث هنا هو نسخة مشوهة وتافهة من الأشياء الطبيعية الممتعة ، بيئتنا تسمم كل شيء تقريباً ،أحيانا انظر من حولي وأري الجميع قد فقدوا عقولهم ، أري هذا الجنون الناتج عن الفرق بين ما أعتدنا كونه حقيقة لا يشوبها شائبه ، وكنا قد أمنا به دوماً ،وبين ما رأينها وتعلمناه بالتجربة القاسية تلو الأخرى ،أري كيف أننا الآن نجد أنفسنا وسط حطام من الفوضى والضياع ،  حتي أنه بات من المستحيل إستشراف المستقبل الذي أصبح أكثر غموضاً وتشابكاً ، فأدرك وقتها أن التجارب القاسية اليوم باتت جماعية أكثر منها ذاتية .
ويمكننا ببساطة أدارك هذه الحقيقة من خلال هذا العالم الإفتراضي الذي منحنا كامل الحرية لإظهار ما بداخلنا من جمال ، ومن بشاعة ، فبفضل وجودنا فيه الذي يشبه الذهاب إلى تجربة أداء فيلم تاريخي عظيم ،يظهر الجميع فيها أقصي ما عندهم حتي يتم قبولهم ، ولا أعني التمثيل في تشبيهي هذا ،أنا فقط أردت إيضاح هذا الكم الهائل من التفاني في أداء شخصياتنا .. فأنا لا أعرف قطعاً هل نحن نُظهر المعادن الحقيقية لشخصياتنا بمعرفتنا المختارة أم اننا ندعي؟
 لقد شاهدت الكثير من حولي يكتب عن أحزانه وخسائره ، وشاهدت الكثير من الردود المُطمئنة والمواسية ،وشاهدت أكثر من الردود الساخرة والمتأففة .. ماضر هؤلاء؟ ماهي مشكلتهم بالضبط مع من يعبر عن حزنه او مأساته! حتي لو كُنت غاضبة ناقمة كل الوقت فأنا لدي أسبابي بالتأكيد التي في مجملها لا تهدد راحة أو طمأنينة أو سعادة وتفاؤل أحد.
 هل يجب أن ندعي الثبات والقوة الزائفة ونصطنع السعادة والتفاؤل ونظهر بأبهى حلّة ونتبني النظرة الإيجابية الباردة التي تغتال صدق مشاعر الإنسان ! هل يجب أن يقتصر وجودنا في هذا العالم الإفتراضي على إظهار جانب واحد مثالي فقط! الم تعطيك مثل هذه الأمور انطباعاً زائف عن الإنسان!

أعرف جيداً أنه من طبيعة بعض البشر إنهم  لا يمتلكون السعة في الإنصات، خصوصاً لو كنت تتحدث لهم عن أوقات حزنك التي لا نهاية لها ،ستجدهم لا يلقون لحكايتك أذناً ، أو سيقومون بتسخيف همومك وتأطيرها بلا مبالاة ، أو ربما ستجدهم يستعرضون أمامك قواتهم وصلابتهم في مواجهة حياتهم المليئة بالأحداث والانجازات، لا يتمتعون بالإرتياح لرغبتك الصادقة بالحديث بلا نية لقلبك بأي مواساة أو كلمة ضماد،  لم يتفهموا أن كل ما توده هو إلقاء مشاعرك من جرف روحك.
ولكني أعتقد أن هذا التراكم الهائل والمخيف للحزن داخل قلوبنا جعل من العزلة ملجأ أول وأساسي داخل الأشخاص، كلاً منا يحمل جحيمه الخاص بداخله ويهيم فيه ،يحاول البعض وأنا منهم طبعاً فهمه، أو الوعي له، ولكن المرهق في هذا أنه ليس هناك معلم يشرحه سوى اجتهادات نفوس أصحابه والتي ستقضي علي هذه النفوس بدورها .
لهذا ربما كانت الكتابة والجنون أيضاً في هذا العالم أراحوا الكثير منا ، فهذه هي الحرية الجديدة المتاحة التي اختبرناها جميعاً ،ولكن ما يزعجني حقاً أن هذا العالم لا يحترم أحزاننا الصغيرة ، تلك الأحزان الصغيرة التي توجع لكن لا يمكنك الحديث عنها.. تماما مثل حزن كومبارس دعى أصدقائه لمشاهدة العرض ، تأخروا قليلاً في الحضور ، فانتهى دوره فيه.
يزعجني أنه لا أحد يقف للحظة حتى يفكر بهذه الأمور كأحد أكثر أشكال المواساة إنسانية ورحمة .
بالنهاية لن تترك الأشياء واجباتها الكونية من أجلنا ، لذلك ربما علينا نحن أصحاب الحظ العاثر ، الحزاني المكتئبين ،ربما يجب علينا أن ننشئ حزباً ما، أو نذهب لكوكب آخر أو حتى نختار جزيرة معزولة نُسميها جزيرة الخاسرين ، ثم ننقرض فيها بصمت وسلام .

‏‏