الخميس، 19 أبريل 2018

بعد منتصف الليل


وبينما ينشغل العالم في الخارج بالحروب والخدع والتطبيل والتهليل والهبل والسياسات الخرائية المبهمة، أنزلق أنا في حوض الأستحمام مثل أي ترس أنساني بائس في هذه المنظومة الكونية البالية، أتحدث إلي زجاجة الشامبو بصوت خفيض ومتقطع أشبه بحشرجات، وكأنني أبحث عن ملاذ،
أيها الشامبو لم أعد احتمل، لم يعد بأمكاني حصر أخطائي المتكررة أو تقيمها بدقة ومهارة كالسابق ..
ترد هي : لست طبيبك النفسي، أنا مجرد زجاحة شامبو أيتها الفتاة الدرامية الحمقاء.
أرد عليها بشكل تلقائي وطفولي : أرجوكي، يجب أن تحترمي البعد المأساوي لشخصيتي .
تقول  : حسناً .. ماذا بكي ؟
أقول  : لم أعد أحتمل تكاليف عاطفتي وأفكاري، ولا يمكنني التخلص من سطوتهما عليّ، دائماً ما أجدني أتبع الحد اللانهائي للمشاعر والأفكار، الحد المتطرف.
فترد قائلة : تعرفين جيداً كم هو مكلف أن تتطرفي.

أسترسل في حديثي عن تلك الأفكار لأقول لها : أخر مرة كنت أفكر فيها في الرب انتابني شعور غريب بالحزن والأسى تجاهه، كم هو كائن وحيد وأزلي في وحدته ولديه ليل لا ينتهي، قد شعرت أنني مثله، كأنني إله لديانة فانية، هجرها كل أتباعها وتركوا معابدها للصدأ ، شعرت أنني وحيدة مثل إله هذه الديانة، كان شعور مثقل بالوحشة، تلك الوحشة التي تنتابك وسط الجموع حينما تتضخم عيناك بالدموع، ولكن لا أحد يستطيع أن يلحظ ذلك.
أجد زجاجة الشامبو تتجاهل حديثي، فأكتفي بهذا القدر من هذا الحديث الجنوني كليًا وجزئيًا، كان يجب علي اصلاً أن لا أشارك أحداً هذه الأفكار وألا جعلت من نفسي أضحوكة. 
أخرج من الحمام ثم أرتدي ثوباً فضفاضًا ليمر الهواءمن خلاله، أن الذي يربت علي قلوبنا في لحظات من الوحده كهذه ليس سوى نسمات الهواء البارد، ربما تستطيع لمسته أن تخفف من وطأة كل هذا، أذهب لسريري بجانب النافذة أنني احرص على أن أبقي الستائر مفتوحة على هذه السماء الواسعة حتى الصباح، يمكنني الآن أن أزيل هذا الحاجز الكثيف من الضجيج الذي يحول بين روحي وسمعي، تلك الحاجز الذي يحرمني من الأستماع الى صوت العالم وإلى الأصغاء للطبيعة وحركة الأكوان، لصوت وخزات المطر وحتى إلى الأخر وإلى نفسي، يمكنني أن أسمع صوت الليل يصدر صفيراً حادًا يثير مشاعر الشجن بداخلي، إن هذا الوقت من الليل الذي يُسمح فيه للأرض بكل ما عليها بأن تكون متعبة، دون أن تضطر لأرتداء قناع وجه مزيف غير الآلم، يمكنني أن أسمع أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في أذني، لطالما أعتقد أنني يوماً ما سأجد طريقة سرية وخاصة لأرى بها الموسيقى وهي تسري بداخل الآلات، وربما وقتها فقط سأتخلى عن مشاهدة الأفلام، وعن القراءة، عن مخالطة البشر، وسأظل أتاملها حتى الموت.

أراقب تلك الأضواء الخافتة المنبعثة من النجوم في السماء، أراقب تلك الأجسام المضيئة وهي تذوب وتتلاشى من حولي ، أراقبها هكذا دون الرغبة في أن أسأل مثل أي إنسان آخر هل تبقى ليّ وقت لتصحيح كل هذا ؟
أيها القيد الخفيّ الذي يحول دون أن تغمض عيناي، هل هذا العالم حقيقي؟ هل هو واقعي؟ أنني أحس بواقعية كل الأشياء التي تمارس ثقلها عليّ في كل لحظة، ولكني لا أدري إن كان شيئًا من هذا حقيقيًا أم لا، يبدو ليّ أن هذا العالم وكأنه كابوس طويل مزعج، لا يمكن الاستفاقة منه، يبدو ليّ أن هذا الكون الفسيح المرئي والأكوان الآخرى التي لا يستطيع بعض البشر أدراكها، يبدو لي وكأنه مجرد حلم في إغفاءة قصيرة وهانئة للرب.
أيها القيد الخفيّ، ما هو الشيء الحقيقي في أن أتأمل كل هذه الألوان دون أن أمتلك لونًا خاصًا لي؟
ما اللون الذي ينبغي علي أختياره كي لا تقع عيناي في فخ التوهج واللمعان المفرط للأشياء البعيدة أو المزيفة ؟
وإلى أي مكان في هذا  الكون يمكن للإنسان أن يهرب إذا كانت كل الطرقات توصله إلى نفسه في النهاية، إلي أين وكل الأبواب مفتوحة في صدرك لتقفذك من جديد  إلى ذاتك فقط ؟

أنني مرهقة من التحديق في تلك النجوم التي لا تضيئ جيدًا  في هذه البقعة البائسة من الكون، متعبة من أرتداد هذا الظلام المتناهي في السماء إلي داخلي، متعبة من ذلك التداخل بين أعمدة الأنارة والتشتت الذي تبعثه في نفسي عبر عيناي، من كل هذه المحاولات المستميتة التي تبددها النجوم عبثًا حتى تصبح حقيقية  وذات معني أكثر، متعبة من البحث عن واحدة ليّ لا تنطفئ ولا تغير موقعها.
وأتمنى لو كان بأمكاني الرحيل لأنه لم يعد بأمكاني تفادي كل هذا الضياع.