الجمعة، 24 أغسطس 2018



كلما اقتربت من البشر أكثر عرفت أن هناك صيغًا مبتكرة وغير مألوفة للأذى، وأيقنت أن استحقاقنا للاحترام أكثر صعوبة ومشقة واهمية من منحه للبعض، وأن هكذا هم البشر تتبدل أهواءهم ووجوههم كما يتبدل الليل بالنهار، وكلما ابتعدت عنهم عرفت نفسي وأصبحت أكثر أتساقًا معها.

في عصر السوشيال ميديا لا أحد ينجو من مقصلة الاحكام والتشهير والتنمر والاتهام ،لا أحد يفلت من فخ (السكرين شوت) ومن ثم يقع فريسة ضعيفة لنفرّغ به كل أزماتنا الأخلاقية وعقدنا النفسية وكأننا نحن أصحاب النفوس السويّة ، الجميع يفعلها حتي وإن كانت بدرجات متفاوتة.
والبعض منا قد نجده مبدعًا في إحداث الأذى بالآخرين، لذا إذا كنت هشّ الروح ،حساس المشاعر ،فحريّاً بك أن تتوقف قليلاً ولا تتوغل في مستنقع البشاعة هذا ، لأن أول ما ستناله منه هو أن يذهب نقاء روحك .

الشهور القليلة الماضية التي قاطعت فيها كل السوشيال ميديا وابتعدت عن جو المزاحمة ومشاركة كل شيء تقريباً ،كانت بمثابة فترة أعادة تأهيل لتفكيري ،ولأنني لم أكن بوضع صحي ونفسي ولا حتي مزاجي يسمح لي بالردّ والشرح والتبرير وخوض نقاشات عقيمة ودخول جدالات لن تعود عليّ بشيء ،لأنني أيضًا لازلت أؤمن بالسكن الداخلي للإنسان ،فكان هذا التوقف ضرورة ملحة وكأنه إعلان لهدنة مؤقتة من العالم الافتراضي وحتي الواقعي ، حيث أنني شخص يمتلك دائرة معارف وصداقات محدودة  .

 لم يكن قرار الإنقطاع هذا بتخطيط مسبق مني ، ولا حتي بمعرفة ووعي لما سيؤول إليه ،ولكنه حدث بشكل تدريجي، رويدًا رويدًا شعرت أنني في عزلة شبه صحيّة ، ومن أجل ذلك، وبعد الابتعاد لأول يومان اتخذت قرار التوقف والامتناع عن أستخدام كل وسائل التواصل ،لعل هذا يلملم شتاتي ويعينني في استعادة ماتبقيَ من إنسانيتي المدهوسة تحت عجلات هذا العالم المتسارع المليء بالكراهية والظلم المبثوث في كل أرجاء الكوكب.

كُنت أشعر أن هاتفي قد أصبح امتداد ليدي ، أحمله معي أينما ذهبت ، أتركه الآن بغرفتي دون أن أشعر أنه فاتني شيء بالغ الأهمية ، وبالفعل كُنت قد فرضت قيودًا علي نفسي ووضعت حدّاً لاستخدامي لفيسبوك مُنذ عام تقريبًا، ولكن هذا لم يكن كافيًا ، فجاء دور باقي منصات التواصل الاجتماعي الآن بالتبعية، حتي أمتنعت عن استخدامها تمامًا بالشهور القليلة الماضية ، وعلي الرغم من أن للسوشيال ميديا جانب إيجابي لا يمكن أنكاره ولا يخفي عن أحدّ ،فقد أعطت للجميع مجالًا واسعاً للتعبير عن الذات من خلال طرح الافكار والأراء بحرية ،ويمكننا اعتبارها منصة للمقهورين يوصلون من خلالها أصواتهم للعالم ،كما أنها مساحة جيدة لتوسيع دائرة العلاقات ، وأيضًا قد خلقت بيئة أكثر ثراء في المحتوى المعلوماتي ،فضلاً عن إثرائها لمنظومة الإنسان الثقافية والفكرية والتوعوية، وهكذا، فمن الواضح أنها حققت فوائد لا تُحصى ولا يمكن تجاهلها في حياتنا.

ولكني الآن قد بتُ أكثر إيماناً أن الأثار النفسية لمواقع التواصل الاجتماعي أيضًا لا يمكن حصرها ، وإذا اعتبرنا فيسبوك- حيث أنه الشبكة الأوسع أنتشاراً والأضخم من حيث عدد الأفراد المستخدمين- يفوز بنصيب الأسد من هذا فلن نكون ظالمين ، فآثاره النفسية السلبية حدث ولا حرج ، وصلت إلى حدّ الاكتئاب الحاد والانتحار والتوتر المفرط والقلق وزيادة مشاكل النوم والثقة الزائدة الغير مستحقة وتشوّه رؤية الذات الحقيقية ، وحالات التحرش الالكتروني والتعدي اللفظي ، ناهيك عن حالة التوجس الدائم وعدم الرضا وشيوع الكراهية التي تسمم فضاء الإنسان ،وسلوكيات التنمر والسخرية والعنصرية والحط من قدر الأفكار والأشخاص... الخ ، وعلي هذا لا يمكننا الحصر ولا التحكم في الاثار النفسية والاجتماعية الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي .

جون بول سارتر لم يعاصر سنابشات ولا إنستغرام ولكنه وصفهما بدقة عندما قال
"لكي يصبح أتفه حدث مغامرة، فيجب ويكفي أن يأخذ المرء بـ"سرده" وهذا ما يخدع الناس". هذا ما فكرت به تمامًا عندما استخدمت سنابشات لأول مره ،فأنا بالأصل لم أكن استساغه ، ولكني فكرت باستخدامه بتوصية من صديق للتخلص من الملل ، فعُدت واغلقت حسابي بعد يوم واحد من تسجيل دخولي له ،أما إنستغرام فكان في بدايته تطبيق لطيف كونه يوثق اللحظات الجميلة عن طريق الصور، ولكنه غدا بالنسبة لي مكانًا لا يطاق ، أن أشاهد صوراً طوال الوقت للبشرية جمعاء في لحظات السفر والاستمتاع والاستجمام وحتي أوقات العمل والأحداث العادية والمكررة ، فهو -بالنسبة لي طبعًا- ضربًا من العبث، برأيي أن الصورة بالأساس هي مجرد إطار يحاكي هذه اللحظة فقط ، لحظة واحدة ، وليس كل الأوقات والنشاطات والأحداث العادية المكررة فقط لإظهار جانب واحد من حياتنا مشرق ومثالي حدّ الزيف ! قطعًا أنا هنا لا انتقد أي شخص يستخدم هذه التطبيقات بسلوكيات مغايرة لرأيي ،ولكنني أحاول إيضاح رؤيتي لها فقط.

ثم وبعد سنوات من ثورة الأنترنت أصبحت أري أن وسائل التواصل بشكل عام باتت أشبه بسعار استهلاكي وجنسي قبيح جداً ، سباق دائم خلف معايير جمالية واجتماعية خيالية يحلُم الجميع بالوصول إليها، صراع مستفحل لجذب انتباهي كمستهلك ،تفشت ظاهرة التسليع والترويج لأي شيء وكل شيء تقريباً ، موجة غير مسبوقة من الأسهاب الإعلاني الرخيص لتصنع معها جيلاً قادمًا يقود نفسه إلي الأنانية والسطحية أكثر مما يجري الآن.
 وصلت بي لدرجة أن أرسل شكر لأي حساب مخلتف وجمالي أو ثقافي أو فنّي بعيد عن أغبياء ومشاهير السوشيال ميديا   و"الفاشنيستا والفود بورن" وكل هؤلاء الذين لا أعرف ماهي علّتهم تحديداً .

 لقد تخلصت من أول فكرة كانت تطرأ ببالي حول أي شيء "كيف أشاركه؟"، كيف أصيغه في بوست أم تويت أم الأفضل أن أدونه بصوره بإنستغرام ، فكانت هذه الفكرة مزعجة بالنسبة لي وتأخذ من تفكيري بجوهر الشيء ومحاولتي لاستيعابه فكريًا و شعوريًا، أصبحت أكتب وأدون علي مفكرة هاتفي او في دفتر يوميات بشكل أطول وأكثر بساطة وراحة بعيداً عن هوس الأعجابات والتعليقات والمانشن والشير، وكل تلك الرموز التي علي اساسها يتم تحديد قيمتك في مجتمع السوشيال ميديا.
تخلصت من الحدود المقيدة للفكر وللشعور الي تفرضها علينا السوشيال ميديا، علي سبيل المثال حدود الأحرُف في توتير، وفي إنستغرام هناك عين الكاميرا والفلاتر والكابشن حتي أُلائم "المقاييس الخاصة" للتطبيق ، وأيضًا مراعاة من يقرأ كلامي وكيف تُفهم مقاصدي في المحيط الفيسبوكي  ، استبدلت فيسبوك وإنستغرام بقنوات يوتيوب وقوائم لأفلام وكتب وبودكاست ووثائقيات لا تنتهي ويمكنني أن أستمتع بها أكثر ،أفضل الدوائر الصغيرة الحميمية التي يمكنك السيطرة بها علي المحتوي الذي تشاهده او تشاركه ،لقد اصطفيت القناعة بالنفس علي هوس المشاركة الجماعية وكم الأعجابات وحبّ المديح وجو النفاق الاجتماعي .
لقد أستراح عقلي من السباق اليومي لمشاهدة كل الستوريز والتريندات السخيفة  وكل هذه الاشياء التي تظهر وتختفي لتُشعرك أن كل البشر أصبحوا نسخ سيئة ومكررة من بعضهم ، هدأت نفسي من كل الأشياء الي أراها ولا أستطيع الحصول عليها، استهلاكي للأشياء الزائدة قلّ كثيراً ، خف هوس التسوق ولم أعد أشتري إلا الأشياء التي أحتاجها فعلاً، أنعتقت من النموذج الذي أفرزته السوشيال ميديا للفتاة "الدلوعة الكيوت" و للمرأة "Strong independent woman" فتيات كثيرات ذوات عقول ناضجة كُنا نحسبهن ذوات مواقف إنسانية حقيقية ، ولكن الإيام أثبتت أنهن لسن أكثر من ساعيات للبروز الاجتماعي في محيط السوشيال ميديا، تجدها تستجد الشهرة لتكون محط اعجاب ولفت للأنظار فتسقط في وحل السخافة والدناءة في آن معًا ، تجدهن كاتبات وناقدات ومدونات في صورة فاشنيستا، كل ذلك من أجل أن يُشعرن أنهن أفضل من غيرهن وأجمل من غيرهن ومحط اهتمام  أكثر من الباقيات .
أعلم أنه ليس من شأني تحديد ما إن كان ما يقوم به غيري  سخيف أم عظيم ، وليس من واجبي الحكم إن كان هذا شيء مهم وأصيل أم سطحي ومزيف، ولكن كما ذكرت أعلاه ، جميعنا يمارس هذا بدرجات متفاوتة إن كان بوعي منا أو دون وعي ، هذه هي ثقافة الانطباعات والأحكام الظاهرية للسوشيال ميديا.
الجزء الأهم في هذا كله أن خصوصيتي بعد الابتعاد أصبحت بوضع أحسن كثيراً ، وهي لو تعلمون راحة بال منقطعة النظير.

‏ دان سلوبن لديه طرح يسمي (Thinking For Speaking)،وهي نمط مختلف من التفكير ندخله علي أفكارنا قبل أن نتحدث  بأي شيء ، كنوع من التهذيب والقولبة للأفكار ، وهو يتضمن تطويع كل أفكارنا بحيث أن  تتماشى مع القواعد والمفردات اللغوية المطروحة أو السائدة ،ووضعها بقوالب قابلة للفهم والتواصل  .

‏ومن هذا المنطلق فأنا أعتقد أن هناك نمط آخر للتفكير وهو
 (Thinking For Social Media)، وأعني بهذا أننا نحصر أفكارنا بقوالب فكرية محدودة ونصيغها بلغة محددة ،لغة قاصرة "وقابلة للانتشار " بشبكات التواصل الاجتماعي " اللغة السائدة" ، وأعتقد أن هذا شيء غير صحي لعقولنا وطريقة تواصلنا ببعضنا البعض ، كذلك أري أنه من واجبنا تجاه أنفسنا أن نكسر هذا النمط بين حين وآخر.

أخيراً نحن في العالم الافتراضي مجرد ظلال لشخصياتنا ، لسنا ذواتنا بصورتها الكاملة والحقيقية ،هناك عدة جوانب لنا محجوبة حتي عن انفسنا، وايضًا ممن المهم أن لا ندع هذا العالم الافتراضي يشكلنا بعد أن كنا نحن من شكلناها.

لقد غادرت السوشيال ميديا لهذه الأسباب ، ربما تكون مفهومة لدي البعض، وطفولية لدي البعض الآخر، وردة فعل مبالغ بها لدي الكثيرين،
ولكني لا أهتم بالرجوع إليها في الوقت الراهن.
هل سيتحسن العالم بهذه العزلة ؟ بالتأكيد لا
هل ستستمر هذه المقاطعة للأبد ؟ أيضًا لا ، ولكني أأمل أعود لها بسلوكيات مختلفة.