الأحد، 22 سبتمبر 2019

ليالي الخريف الحزينة



لقد مضى وقت طويل منذ أخر مرة راودتني فيها رغبة قوية بالكتابة، خلال الأشهر الماضية حرصتُ على تدوين بعض اليوميات، ولكني حينما عُدتُ وتخليتُ عن التدوين اليومي الورقي شعرت أنني فقدتُ شيئًا.

الشخص الأخر بداخلي يقول:
ألم تفتقدي شعور تدفق الكلمات من عقلك، ومُحاولة اصطفافها على الورق كأطفال في حماس أيامهم الأولى، قبل أن تتحول أيامهم إلى روتين، تتلاشى منها الأحلام وتحدّهُ الأعين والأذهان التي تقرأُها، قبل أن تختفي من مفرداتها ثورة الانطلاق في كل اتجاه، ويظل الخط المستقيم هو الهدف الوحيد.

ما الذي حدث لك الآن؟ كنتِ تكتبين كل ليلة. الأرق رفيق الليالي الطويلة، والحزن يتجدد كل لحظة تمامًا كالسعادة، والمشاعر لا تنضب والأفكار لا تنتهي، يمكنك إحياء فكرة قديمة، أي فكرة، فكرةً تمورُ شأنها كُلَ الأفكارِ في رأسك، فكرةً تُحدثُ جلبةً خفيفة بعد مورانها، هاهي قد جاءت، هذه الفكرة التي وثبت على سطح أفكارك فجأة، يمكنك التقاطها، يمكنها أن تنمو بسرعةٍ طفيلية لتُصبح قرارًا، يمكنك نسج قصةً منها، يمكنك حتي تكرار أحد أيامك، أفعلي ذلك، أكتبي أيّ شيء، أكتبي عن الأفلام، عن الموسيقى، عن الكتب، عن الأيام، عن درجات الحرارة، حتى يمكنك أن تكتبي عن ذرات الغبار التي تتراقص حول نافذتك الآن.
أُرددُ، حسنًا .. أشعرُ أنني عاجزة عن الكتابة، وكأن عضلات يدي تيبست إزاء الأوراق، لا بأس أقول. سأفتح جهازي اللوحي رُبما هذا يخفف من حالة التوتر الواقعة بيني وبين الأوراق مؤخرًا، عندما أفتح هذه الورقة الأفتراضية، أدرس في البداية كل الإحتمالات التي يمكنها أن تجعلني أخفق مجددًا، فأخفف إضاءة الجهاز، لكي يبدو هذا الضوء شديد البياض الذي يواجه نظري أكثر انسجامًا معي، تبدو الإضاءة الآن بيضاء مائلة لزرقةٍ خافتة، أزرق محاولًا أن يكون رماديًا ، أو رُبما أسود إذا ما قررتُ أن أتوقف عن الكتابة وأغلقت الجهاز هكذا دون تردد. رغم ذلك لا تؤتي بثمارها هذه الحيل، لا اسطتيع الكتابة، لا أجد قدرتي الكتابية الخاصة الآن سوى كتلة من الصلصال يابسة ومُشوهة، أحاول أن استجمع قواي، اجمع الأحرف ببطء متحجر وصعوبة بالغة، أقاوم كل الأشياء التي تسهم في عملية قتل الأفكار، أحاول أن أُعبّأ صدري بالعزيمة التي تمنحني أياها سطوة الكتابة، أتخيل الكلمات، الأحرف، العناوين ثم أتوقف.

كم أكره أن أكرر حديثي عن معضلتي الدائمة التي أعيشها لأجل الإلتزام بالكتابة، وأشعر في بعض الأحيان بالإحباط لأنني لا أجد مادة للكتابة سوى حياتي الواقعية الفقيرة، رُبما بسبب أن التفكير في حياتي يقودني لتشتتٍ أكبر وأعمق، ولكني أعزّي نفسي بتذكر النصيحة الأبدية لكل الكُتّاب:
اكُتب، اكُتب، اكُتب، اكتب ماتفيض به نفسك وحسب، المهم أن لا تجلس خالي الوفاض. نصيحة ذهبية لكل الكتّاب يمكنني أتباعُها، سأكتب دون أن أهتم للإملاء، ولا القواعد النحوية، ورأيي بنفسي فور الانتهاء والنظر للنص من بعيد، رُبما على الأغلب سأظلل النص كاملًا وأمحيه، أو ألقي به في اللامكان، ثم أغلق الصفحة.
سأحاول التدفق في الكتابة وحسب، حتى لو كان ما أكتب محض هُراء، أنه درسٌ وعيته جيدًا من قراءة سير الكُتّاب وأسلوب حياتهم، كافكا، ماركيز، بول أوستر، نجيب محفوظ والقائمة بلا نهاية.
إذن سيكون هذا النص فضفضة، حكي فارغ، أستجدي فيه حيلتي للعودة للكتابة، نصّاً محشورًا هكذا فقط، مجرد محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة ليس إلا.

أفكر .. هل لازالت النصوص الحزينة تؤلم كُتّابها حتى إن كانوا في قبورهم ؟
اردتُ أن ابدأ هذا النص بهذا التساؤل، كثُرت تساؤلاتي، ويشعرني هذا بالخجل عندما لا أجد من يجيب، فتتكاتف أحزاني أمامي لأبكيها دفعةًّ واحدة، لكنني لن أفعل الآن، سأكتفي بمعاتبتها فقط كما لو أنها احدى صغاري. يخطر لي أحيانًا أنني رُبما فقدتُ الإدراك بالواقع تمامًا ، هل يعني هذا أن فهمي وموقفي من الحياة يعاني من شوائب منعتني من إدراك حقيقة الأشياء؟
ولكن هناك أمر حقيقته مؤكدة، إدركتهُ هذه الليلة أكثر من أي وقت مضى، هو أنني مقيدة وعالقة، وحبيسة دائرة صغيرة تستمر في ضيقها عليّ، إدرك أن هذا اللون الأصفر الباهت الذي يقبض بظلاله على أيامي لن يرفع يده عني أبدًا، يجعل شعور الشفقة يطغى عليّ، أشفق على مجتمعي، على نفسي ، على الأطفال، على النساء، على الرجال، على البشر، أشفق على الجميع. فأجدني في أوقات كثيرة لا استطيع فعل شيء أكثر من مرور الوقت كيفما اتفق، لا أعرف كيف أقول ما أريد قوله، ولا كيف أكتب ما أريد كتابته، تأخذ أفكاري منحى مستمر في التوتر عندما أحاول شرح نفسي أو تبريرها.

أحيانًا تلمع في ذهني البداية-وهذه أهم النقاط للكتابة- ثم تبدأ الأفكار في التدفق ويبدأ معها الأسترسال، ولكنني أتورط دائمًا بالنهاية، كيف أُنهي ما كتبت؟ كلمات كثيره يفيض بها عقلي أكتبها في نوبات من الدموع أحيانًا ولحظات من السمو أحيانًا أخرى، كلمات طنانة، لها إيقاع موسيقي ومحبب كما يبدو في عالمنا الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي حقيقتي التي لا استطع الفرار منها، الحقيقة أيضًا كلمة فضفاضه، كلمة يتوخى الكثيرون استخدامها، رُبما لذلك التردد والهرب هو روح الحياة التي نعيشها، لكن ما ضرّ العالم لو كان لي حقيقة واحدة، حقيقة أنني مهمشة ومقصية، ويعاد تدويري كل يوم في أيام باهتة لا تقتصد في الدفع بي كل لحظة مسافة أقرب من العزلة؟
نعم أنا لدي تقدير كبير للعزلة، وإيمانًا خاصًا بها، ليس على سبيل التعفف من محاولات الآخرين في التباهي بجودة حياتهم الإجتماعية، بل لأنني دائمًا عندما أكون وسط حشدٍ دافئ من الناس لا أشاهد إلا نفسي، أشعر بأنني أعي بكل خلية صغيرة فيّ، كل خلية تنبض في ترسانة هذا الجسد الذي يحمل وجهاً شاحباً، وملامح مسحوقة. ما الذي يمكنني قوله عن هذا كله! وعندما يُعيدُني عقلي لهذا الحشد لا أرى فيهم أكثر مما أراه في نفسي، فلا أتخيل حالًا غير التعب والألم، الألم الذي لا ندرك حقيقته إلا عندما يبلغ بنا درجةً فاحشة يستحيل معها تجاهله.

أفكر فيما كتبت فأجد صوتي ينحسرُ ويتراجع ثم يموت، فيطويني هذا الصمت المطبق، وتؤذيني تلك الكلمات التي لا تجد طريقها للحديث، وتبدو بعدها كل الاستعارت ضعيفة لوصف هذا الشعور، كل المجازات قاصرة ولا تُموجُ سطح ماء، كل القصص لا تشبه أي شيء مما أردت قوله، كل المحاولات التي عبرت فيها عن غضبي وإحباطي لم تفضِ إلى شيء، لا على مستوى الحلم، ولا على مستوى الواقع.

تصيبني تلك الحالة بصداع ودوار عنيف في الرأس، وكأن الأرض ما عاد يغريها أن تدور حول نفسها، فصارت تدور حول رأسي بدلًا عن ذلك،حتى صداعي تشبه غرابته غرابتي تمامًا ،صداع يمتد من بينى الحاجبين وحتى جدار أنفي وصولًا إلي عيناي، فتبدأ بواخزت خفيفة تزداد حدتها لينبض الألم بهما، هنا تحديدًا في عظم وجهي، وكأن جمجتي قد أصبحت كتلة علي وشك الإنفجار .. ينبض الألم مع كُل نفس، مع كل إلتفاته وغمضة عين ، وكأن لا ينقصني إلا صداع لعين لتفتك الآلام بي، هذا النوع من الألم لايبرأ إلا بعدما أتناول أطنان من المسكنات وتنتهي النوبة بالبكاء، ولكن لابأس في ذلك، يمكنني التحامل على نفسي، فأنا خير من يعرف أن التعايش مع الألم ممكن .

أترك الكتابة جانباً وأمسك بهاتفي لأستمع إلى بعض الموسيقى، أشغل أول قائمة أغاني يلتقطها بصري، فأجدها "Across The Universe" ل " The Peatles" أنصت إليها بأنسجام شديد، وعندما يقول:
Nothing's gonna change my world
ينفرط كل شيء معها تقريبا. أتجاوز هذه اللحظة بقليل من التماسك والكبرياء، ولكنني أريد أن أتأكد من عدم شبحية ما أحسُ به، أعرف أنني في معظم الوقت في حالة سيالة من الجهل، فأوثقُ نفسي في تلك الأوقات بالكتابة، أو الموسيقى، أو قراءة الشعر. فأقرر أن أعطي فرصة أخرى للكتابة فأكتب هذا النص.

لا أريد أن أتوقّف عن الكتابة، أريد أن أوثق كل هذه الأحزان، هذا التشظي والشتات، نوعًا من التحنيط الرائع لرمادية أيامي، أريد أن أعود لقراءة ما كتبته لإدرك أن هذا تتطلب الكثير من التعاسة. أريد أن أعود للبحث عني بين السطور مُتسائلة هل كتبت هذه الجملة بلا شعور، أم كان يغمرني شعور مغاير عما كتبت، هل هنالك تفاصيل لم أرغب بالاشارة إليها؟ ماذا لو قيل لأمي أن أبنتك تكتب كلامًا غير مفهوم! هل عدم الفهم جريمة يجب عليّ التملص منها؟ أيفترض أن أكتب بوضوح، وبهدف نبيل، ومُفيد؟
أبحث عن مخرج طوارئ ينقذني من هذا التيه الذي يغزو أعماقي، وأخالني أعلم أن معاناتي باتت تكمن في إنني لا أكتفي بآداة واحدة لترجمتة هذه المعاناة، أريد أن أتعلم الرسم - رغم علمي أن رسمي سيء ولا أجيد قياس الأبعاد- لكني أريد أن أرسم، أقرأ، أكتب، أغنّي، أعزف الموسيقى، ألتقط الصور التي تلتقطها غالبًا عيني المجرّدة في كل مشهد، أريد حتى أن أتعلم الخياطة، لأصنع لنفسي ثوباً أزرق، الأزرق لونًا روحانيّ، أريده بالغ الزُرقة للحد الذي يشعرني أنني أرتدي كل محيطات الأرض، سأرتدي معه عقدًا عُلِّق به حجر الجشمت، أريد وأتمني لو أن الطقس مطيرٌ هذه الليلة، لكي يبدو هذا كله منسجمًا مع كأبتي.

الثلاثاء، 30 أبريل 2019

أنهُ الخوف من النّهايات


أكْثر ما كُنتُ أخشاهُ وأنا صغيرة أنْ تنتهي الأشْياءُ, أجازات الصّيف الّتي نُقضيها على الشُطّان, الحكايات الّتي تحْكيها لنّا أُمّي قبل النّوم, عُلْبةُ الحلْوى المُخبّأة في خزانة مطبخها, مُشاركتُها في أَعداد وجباتي المُفضّلة كالمكرُونة وقالب الكَيك بالشُّوكُولَا, حتّى وإِنْ كُنتُ لَا أشاركُهَا فعليًّا كان يكْفيني الجُلُوسُ معها في المطبخ وهي تُثرثرُ حول كيفيفة أعدادُ الطّبق, أُراقبُ يدها وهي تُنثُّرُ ذرّاتِ الدّقيق في الهواء بخفّةٍ وتباهي حتّى تَضحكُنِي, أنهُ ذَاكَ الخوفُ الطُّفُوليّ منْ أَنْ تنْتهي أوْقات المَرح, أخاف مِنْ أنْ ينْتهي ما أَمْلك حتّى لو كان قالبُ شُّوكُولَا مثلًا, كُنْتُ أدَعُهَ فِي يدي, وأتأَمّل أخُوّتي وهُم يأكُلُون ثُمّ أذْهب وأَحْتفظُ بقِطْعتي في درج مكْتبيّ حتّى وأنْ فسدت لا يُهِمّ ولكنّها ستظلُّ بحوزتي, لا أُرِيدُها أنْ تنْتهي.
لمْ أكُنْ أَفْضل مُشاهدة أَفْلام الكرْتُون عَلَى التّلْفَاز, أما أفْلام الكرْتُون الّتي كُنّا نُشاهدُها عَلَى أَشْرطة الفيديو كانت الأقربُ لي, ذلكَ لأنّني استطيع إعادة مُشاهدتها متى أردتُ ولا أخافُ منْ أنْ تنْتهي فبإِمْكاني أنْ أُعيدها آلاف المرّات بضغْطة زرٍّ واحدة, لا أملُّ منْ التَّكْرار, الِمُّهُمْ ألّا ينْتهِي, ألّا يتوقّفُ للأبد, أمّا الأفلام التلفزيونية التّي كُنّا نجتمعُ أنا وأُخُوّتي لنُشَاهدها كُنتُ أُمقّتُها في أَغلب الأَحيان, كانتْ تنتهي بموت البطلة أَو البطل أَو حتّى بانتصار الخيْر عَلَى الشّرّ وزواج البطل والبطلة, كُنتُ أَكرهُ هذه النّهايات لِأَنّها تَحَدٍّ منْ خيالاتي ففي خيالي كانتْ تظَلُّ النّهايةُ مفتُوحة للأبد, يُمكنُني تخيُّلُ سيناريُوهاتٍ لَا نهائيَّة لِأيّامٍ وأسابيع أُشطّبُ وأُضيف لها التّفاصيلُ كما يحْلُو لي ولكنّي أتجنّبُ انتهائِهَا, كُنتُ أسرحُ في خيالاتي والجميع من حوليّ كانُوا يعتقدُون بِأنّي طفلة هادئةٌ فقطْ لَا تتحدّثُ كثيرًا ولَا تشاغب, لقد غاب عن الجميع سرُّ خيالي المُتّقد بالحكايات, كُنتُ برفْقة خيالي طفلةٍ محظُوظةٍ وغريبةٍ الأَطْوار في آنٍ معًا .
لكني كُنْتُ دوْمًا أخافُ أنْ تنْتهي الأشياءُ, حتّى أنّها إذا انْتهتْ بالفعْل أدّعي بأنّني لمْ أكُنْ أهْتمُّ بِها اصلّا ولمْ تكُنْ تعْنيني منْ قبلُ ولا منْ بعدِ, وأن تصرُّفي تجَاهَهَا كان بدافع الفُضُول ليْس إلّا, وبذلكَ كنتُ أتجاوزُ النّهايات الغارقة دُونما ابْتلّ, لكِنّي أُصاب بعدّها بِداءِ التّذكُّر الّذي لا ينْتهي, فيجْرُفُني معهُ في بحرًا منْ الدُّمُوع.

 عِنْدما كبُرْت رأيْتُ أنّ هَذِهِ السّياسةُ لا تُناسبُ شخْصِيّتُي فغيّرتْ سِياستي هذه تمامًا, صحيحٌ أنّني ما زلْتُ أَخافُ الاِنْتهاء فأتمسّكُ بِالأشْياءِ حتّى لَا تفلّتُّ, ولكنَّها إن أفْلتتْ لا أُلاحقُها أبدًا, أَصْبحْتُ أُعالجُ نفْسي بالمُواجهة, لا أَهرب منْ الأَشْياء, لا أُمسّح أرْقام هواتِف أو صُور لأَشْخاصٍ تركتْ أَيْديهُمْ يدي, ولا حتَّى أُعطي حظْرًا ولا أتجّنبْ الأَغنيات والذّكريات, فقطْ أُواجه, أُعَالج الأمور بِالمُواجهة, أنْظُر إِلَى الصُّورة مئة مرَّة حتّى تُصْبِحُ عاديةٌ, أتْرُكُها تأُذيني آلَاف المُرّات حتّى أَتجاوزها, أَسمع الأُغْنيّة حتّى أَهزمها فتتوقّفُ عن هزمي, أُمِرّ عَلَى الشّخص ملايين المرّات حتّى يُصبِحُ عَادِيًا بالنسبة لي , لقدْ تغلّبت عَلَى خوّفي منْ انتهاء أغلّب العلاقات بحياتي.

قُلْت لِنفسيّ لن تكُوني شجاعة قبل أنّ تذوُّقي ألم الحياةُ, الفقدُ, الخوف, الفشلُ, الضّعفُ...
ممَ تخافين تحديدًا؟ هل تخافين الموت ؟
أتذكّر أنّني سألتُ نفسي هذا السّؤال بِوضُوح قبْل عَامَانِ تقْريبًا مِنْ الآن, وأَنا مُمدّدةٌ عَلَى طاولة الجراحة في غُرْفة العمليَّات, وكانت إِجابتي بالنّفي طبعًا فأنا لستُ من النّوع الّذي يخافُ فقدان حياتهُ, كُنتُ دائمًا مُستعدَّة لِأن أَرحل دُونَ عودةٍ, غير أنّي فقط وقتها كُنتُ غارقة بعددٍ لا يحصى منْ الأَحاسيس والأفْكار, فسألني طَبِيبي وقتهَا فيما أفكّر, خِفّتُ يومُها أنْ أقُول لهُ عنْ مشاعري هذهِ, فيحسُبُ أنّ رأسي امتلأَ بالتّخدير المُنْتشر بالغُرْفة ولمْ أُعدْ واعيةً, فضّلْتُ أنْ أحْتفظ بمشاعري لنفْسيّ, فالكلمات التّي تصفُ الأَحاسيس تظلُّمُ مبْهمة لَدَى الأخر ما لمْ يشعُر بها, فمن الأفصل إذنْ الإعراضُ عنها والاِحتفاظُ بها, والانصرافُ إِلى وصف أَيٌّ شيء أخر, وصفُ الجمادات, الموقف, وحتّى وصف أنفُسُنا, لنقل, الاِنصرافُ إِلى وصف الوقائِع وصفًا واضحًا, فتمتمتُ وقْتُها بِبِضع كلماتٍ عنْ غُرفة العمليّات, وَقُولت لطبيبي أنّني أُفكّرُ في شكل الغُرفة لِأَنّني لم أَدخُل غُرفة عمليّاتٍ منْ قبل, فَرَدَ بابتسامة تُوحي بالتّفهُّم, وقالَ أنّهُ يُعتبرُ هذه الغُرفة بيتهُ ولا يُوجدُ بها أيّ جديدٍ بالنّسْبةِ لهُ, ولكنّ أذا كان يُوجدُ بها ما يُثيرُ اهْتمامك سأُرِيكَي مجمُوعة صوّر للغُرفة حَالَمَا تستَعِيدي وعيك بعد إِتمام الجِراحة بسلام .

لقد انحَرف مسارُ هذه التَّدوينة كثيرًا عمَّا كان بِخَاطري قبْلَ البدء في الكِتَابة, ولكن سأبدء من جديد.

اكْتُبْ هذا وأنا أتأمّلُ عضَةً صغيرةً عَلَى كفّي الأَيمن, وخدّشَ صغير بذراعي الأيسر, أَنّها آثار قطِّي سوكي. في عام 2016 وَتَحدِيدًا يناير, وُصل سوِّكي إلى بيتنا بعُمر الأُسبُوع, كان لِأُختي بِالأَساس أَخذتهُ منْ صديقةٍ لها, صغير بعينين صغيرتين مُشاكستين ولكن تملأُهُما البراءة, أغْلب الّذين عرفُوهُ كانُوا لَا يَروهُ جمِيلًا! كانُوا يَرَوا أَنّهُ يُشّبه قطط الشَّارع, ولكنّي كُنتُ أرَهُ جميلًا بلُونُه الرّماديُّ المُموُه وعيناهُ العسليّتيْن الصغيرتين, اصلًا وهل يملكُ المرءُ أن يختار مستوى جمال أطْفاله مثلًا! كان وهو عُمرهُ أسابيع ينامُ في سريري تحت الغطاءِ, أَرتبط بِنَّا أنا وأختي كوّننا منْ مُحِبّي القطط أكْثر منْ باقي أَفراد البيت, انفصل عنّي قليلًا في بعض الفترات الّتي لم أكُنْ قَادِرَة بها عَلَى الاعتناء به جيّدًا, ولكنّهُ مُنذُ العام الماضي أو أكثر أصبح لصيقًا بي, كُنتُ أَحبُّ اشتداد البرد لأَنّهُ لا يجد مكانًا أَكثر دفئًّا في المنزل منْ سريري, لا ينامُ إِلّا معي ولا يستيقظُ إلّا عندما أنهضُ منْ فراشي ولا يلعبُ أو يأكُل إلّا إِذَا كُنتُ بجانبهُ, في اللّيلِ كان أحيانًا يُصدرُ صوتًا مثل الشّخير, خُصُوصًا في فترات التَّزاوُج كان يمُوءُ بشكلٍ مُزعجٍ طوال اللّيلِ, كُنت أَحيانًا أَشعُرُ بألم وأنا بيِّن الصحو والنَّومُ فأجدُّ نفْسي في صراعٍ, هل أخرجُهُ من الغُرفة حتَّى أستطيع أن أَنام؟ لكنَّهُ كان يدُورُ في الغرفة بطُولها وعرضها ويختبئ منِّي خلف السَّتائر حتَّى لَا أخرجهُ, فيضحكُني بحركاته هذه, فأَتراجع عن فكرة  أَبعاده عنِّي فورًا.
دَائِمًا ما كُّنّا نقُول أنا وأختي أنهُ ينْسى تقريبًا كونُهُ قطّ ويُمارسُ سُلُوكيّات البشر, يتصرّفُ ويشعُرُ ويمُوءُ بلا توقُّفٍ وكأَنّهُ يحكي لِي قصةً, رغم أنّني قرأتُ أنّ القطط لا تمُوءُ هكذا إِلّا مع قطط مِثْلها, لِأنّها تعتقدُ أن البشر لنْ يفهمُوا السّبب وراء هذا المواء أو ذَاكَ, لِذلك هي لا تُتعب نفْسها بذلك, لكنْ سوكي كان قط مُخْتلف, يمُوءُ ليطْلُب كُلُّ شيْءٍ, وكُنْتُ أحْدثُهُ ليشْعُر أنّني أفهمُ ما يُريد, كان يقِف عند فتح الباب أو تحريك المفْتاح ليُنبّهني أنّهُ يرغبُ بالخُرُوج, أو أنّهُ مثلًا يُحِبّ تناول طّعامُه المُقرمشُ أو البيض المسلوق, كُنتُ أُدلّلُهُ وكأَنّهُ طِفلي الصغير, كان كلّ هذا يحدُثُ وسط استهْجان الكثيرين الّذين باعتقادي لا يعلمُون ولا يُقدّرُون بهجة أنْ يكوّنّ في منزلك حيوانٍ أليف يُحبك أو مُقرّبٍ مِنك!
تتأمّلُهُ وهو يلعب, تُراقب حكايات هُرُوبه القصير منْ المنْزل وهلع أنْ يُصيبهُ مكْرُوه, كُنت أتأمّل سعادتُهُ وهو يتكوم ويُلصقُ أنفهُ الرّطْب بالمدْفأة ويُحاولُ استدراج أيّ شيءٍ بكفّه الرّماديّ الصّغير,كانت مُشاهدتُه هكذا تُخرجُني منّي, كُنتُ أَدخُلُ في مُواجهات عديدَةٍ مع أمِّي عِندما تفحُ باب البيتِ وهو يجلسُ بقُربهُ, كانت تقول أَنتِ تُبالغين في حمايته, نعم, كُنتُ شرسةً في حمايتهِ هكذا كُنتُ أبقيهُ أَمام ناظري.
كُنتُ أعلمُ جيّدًا أَن أَعمار القطط قصيرة, ووُجُودهَا ذا أمدّ قصّير جدًّا مُقارنةً بنّا نحنُ البشر, ولكني كُنتُ أُبعد عنْ تفكيري شبح الاِنتهاء الّذي يُخيفُني دائمًا, كُنتُ أخبىء هذا الهاجس في صدري وأقول لِنفسيّ أنه أن كان القط يعيشُ حياةٍ صحّيّةٍ فيُمكنُني أنْ أَحفل بحياةٍ طويلةٍ معهُ, يُمكنُهُ أنْ يعيش معي للأبد.
عاش سوكي إسبُوعًا مأساويًا بِكُلّ المقاييس, وقُضِيتْ معهُ أوّل أَمْس ساعاتٌ بها الكثير منْ البُكاء والألم عليْه, والتّفكير في ماذا سيحُلُّ به؟ هلْ سيسْتعيدُ صحّتهُ في الغد؟  لا يُمكنُ أنْ ينتهي وُجُودُهُ هكذا فجأَةً, رُبّمَا يجدُ البعْضُ أنَّ هذا مُبالغة دراميَّة؟ ولكنّي لا أَسْتطيع مقاومة شُعُوري بحُزْني العميق لفقْده وانْتهاء حياته معي, ولمْ أبالغْ عنْدما أقُولُ أنّي لا أسْتطيع تصوُّر يوْمي بدُونهُ, قبلها بأيام ذهبْتُ للطَّبيب البيطريّ عنْدما اشْتدّتْ عليه علاماتُ الإرهاق وفقْد شهيتُهُ تمامًا, حتّى الماء ظلٌّ يوْمان لا يقتربُ منْهُ, أجْرى لهُ الطبيب بعْض الفُحُوصات الّتي أظهرتْ أنْ لديْهُ مُشكلة بالكبد  وقال أنّهُ بِحُلُول الغد سيُصبحُ بخيرٍ مع هذه الأَدوية, ولكنَّهُ في صباح اليوْم التّالي ازْداد وضعُهُ سُوءٍ, فقال الطّبيب أنّهُ لديهُ مُشكلة أَيضًا في الجهاز التنفُّسي كنت أشعر أن هذه فعلتي وخطيئتي, كان إحساسي بعجزي يفُوقُ احتمالي وأنا أشاهدُهُ يلهثُ لإلتقاط أَنفاسهُ بصُعُوبةٍ ولم استطع فعل شيءٍ يُساعدُهُ, وقتُها شعرُت بغُصّةٍ كبيرةٍ بِصدري كُنتُ أعلمُ أنها النّهاية, فكّرتْ وقتُها آه لو أَمكنني أنْ أعيش بمُفردي حتّى لا تفجعني النّهاياتُ بفقدان الأعزّاء مِثلمَا كُنتُ صغيرة, لكُنتُ فعلتُ دُون تردُّدٍ, ولكنّي أعيشُ وفق قوانينِ الحياة الّتي خُلِقَتْ وخُلقّتّ لها دُون رغبةٍ فَاستسلمتُ لتلكَ القوانين, أمَّا في داخليّ هُناك جُزءًا كبيرًا منّي يتمنّى لو مُتُ قبل موت منّ أحبُّ, كمُحاولةٍ منّي لحلّ ألامّ الفقد المُميت.

لازلتُ كما كُنتُ في صغري لَم أَتجاوز عُقدة النّهايات, والتّجاوُزُ لَا يعني بالضرُورة النّجَاةُ رُبّما يكُونُ غرق منْ نوعٍ أخر نجهِّلُهُ, بشكلًا أَو بآخَرَ تتداخل البداياتُ والنّهاياتُ في كُلِّ يومٍ وكُلُّ لحظةٍ, يبدأُ أَمر لينتهيَ آخرُ, وينتهي أَمر لِيُفسح المجالَ لِآخر, لَا نستطيعُ بكُلِّ الأَحوال أَن نضمن ديمُومَةَ أَيّ شيءٍ, ولكنَّ لأنَّ كُلَّ شيءٍ دائم حتّى يُحدثُ ما يُؤكّدُ عدم ديمُومته, وبطبيعةٍ بشريَّةٍ مُتأَصِّلة فينَّا أنَّ ما ارتحتنا إليه تملَّكنّاهُ أو رُبّما تملُّكنا, تكُونُ النّهاياتُ حينَئذٍ ٍفجيعة فعليّة.


الجمعة، 8 فبراير 2019

حكاية الرجل العادي

دائمًا مانقع في حب الأشخاص والأشياء الّتي تلامس شيئًا عميقًا في داخلنّا، وغالبًا نجد أنّنا نرتبط ببعض الكتب والأعمال الأدبيّة بشكلٍ مميّز عن غيرها، ومن بين كلّ الأعمال الرّوائيّة الّتي قرأتها هنالك ثلاث روايات تشعلُ الغضب بداخليّ لدرجة أنني كرهتُها قليلاً أثناء قراءتي لها، فقد كان كُرهي هذا نابع من حُبّي لها، تحديدًا حُبّي لأبطالها.



رواية "ستونر" لجون ويليامز وبطلها ويليامز ستونر.
رواية "شيطنات الطفلة الخبيثة" ليوسا وبطلها ريكاردو.
رواية "الأبله" لدستويفسكي  وبطلها الأمير ميشكين.
الثلاث شخصيّات كُنت أتمنّى لو أستطيع أن أخرجها من النّصّ، أصرُخُ بها، ألعنُها، أصفعُها، ثُمّ أعيدها للنّصّ لتُكمل المُعاناة الّتي جلّتني أرتبط بها.
من منّا بهذا الوقت يُمكن أن يتعرّف إلى ميشكين، ولا يشعُر بالقلق من طيبته المبالغ بها بعُرف زمننا هذا، من يُمكنُهُ أن يرى ما يفعله ستونر -أو بالأحرى ما لم يفعله ستونر- ويستطيع أن يمتنع عن الصُّراخ بوجهه، قائلاً لماذا لم تّتخذ هذا الموقف أو ذاك، لماذا يا ستونر ؟
أمّا ريكاردو فهذا لا يوجد به رائحة الأمل، تمنيّتُ أن أقتله.
بعض القراء يتصور أنّ الرواية هي مجرد خدر مؤقت، لتلهيّك عن واقعك المرير أو بأقلّ تقدير تجعلك تتهرّب منه قليل من الوقت ثمّ تعود لتواجه قُبحه، ولكنّ أيّ خطأ يقع فيه هؤلاء!
وكي أكون أكثر وضوحًا هُنا، أنا أتحدث عن "العمل الروائي والأدبي الحقيقي" ولكن تقرأون أشياء كحبيبي أنا أحبُّك كثيرًا لماذا تركتني، وتعتقدون أنّ هذا أدب أو رواية ! آسفة..  هذا ليس حتى هروب هذا انتحار بطيء.
سأُخص بالذكر هنا رواية "ستونر"، أريد أنّ أتحدث عن هذه الرواية حتى لا أنتهي، أريد أنّ أفيض وأسترسل في الكلام عن هذه الرواية العظيمة، أريد أنّ أترجم فهمي لهذه الشخصية ولكنّي عاجزة ولُغتي تخونني، تخونني حتمًا.
"ستونر" بالنسبة لي كانت رواية هروب إلى الواقع وليس من الواقع، وأعني بقولي هذا أنّك ببساطة تشعر وأنت تقرأ مثل هكذا أعمال أنّ هناك من يحملُك ويضعك أمام أقرب مرآةٍ ويقول لك انظر يا عزيزي ! هل تعتقد الأن أنّك تهرب من واقعك؟ عفوًا .. أنت غارق به لأقصاك.

كما ذكرتُ في مقدّمة حديثي أنّنا نرتبط ببعض الأعمال الأدبيّة والفنيّة أكثر من غيرها ،كمقطُوعة شعريّة أو موسيقيّة بعينها أو لوحة أو رواية أو حتّي مكان، يعود هذا الأمر إلى أنّ تلك الأعمال تمس شيّئًا فيّنا شخصيًا ،وغالبًا متي بدأنا مشاهدة فيلم ما أو سماع معزوفة أو قراءة كتاب، فهذه التجربة لاتكون مجردة من حُمولتنا الفكريّة والشعوريّة وحتّى القرائيّة السابقة، ولا تكون بمعزلٍ عن مُعتقداتٍّ وأهدافٍ كلاً منّا، وبالتالي تختلف القراءات، فقد يجدُ البعض مثلاً أنّ "ستونر" رواية عادية لا يوجد بها ما يستحق الذّكر أو الاهتمام، حتّي أنّني عند حديثي عنها مع صديقة وكانت قد قرأتها بعد ترشيحي الرواية لها، رغم أنّي لا أحب تقديم توصياتي ليقيني أنّ اطّلاعي محدود وصعب عليّ أن أنتقيّ لغيري، ولكنّها كانت قد سألتني بشأن تقديم توصيات روائيّة، ثم بعد أن قرأت ستونر قالت لي أنّ حديثي عنها مجرد مبالغة عاطفيّة أو أدبيّة، وأنّ "ستونر" لا يُوجد بها ما يُثير اهتمام وحماس القارئ ولا محلّ لها في سياق الأدب المنتشر الآن، واستشعرتُ من حديثها أنّ لديها تفاعُل قليل جدًّا مع شخصيّة ستونر، وقد يجدُ البعض الأخر أنّ ستونر شخصيّة تحمُّلٍ أفاق نفسيّة واسعة جدًّا، لذلك أعتقد أنّ هذا يعتمد على استجابتنا كقُراء.

اغلبُنا يعيشُ في مجالات ضيّقة جغرافيًا وثقافيًا، وقراءة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى قد تمنحُنا فُرصة عظيمة وتوسع لنّا الرؤية إلى خارج هذا المجال الضّيّق، تساعدنا علي الفهم، فالأدب تحديدًا قد يمنحُنا فرصة عيش التجارب التي لا نستطيع عيشُها في الحياة، يمنحُنا فرصة عيشُها وفهمُها، فهم الأخر، واكتشاف وفهم ذواتنا من خلاله، فابالنسبة لي الأدب أكثر كثافة وإفصاحًا من الحياة اليوميّة، لكنّه لا يختلف عنها كثيرًا، فقط إنه يُوسع عالمنا ورؤيتنا له ويحثنا على اكتشاف طرائق أخرى لتصور هذا العالم وإعادة تنظيمه والتّعامل معه، فنحنُ لا نستطيع العيش بمُفردنا حتّي لو رغبنا في ذلك، فرغم كُلّ محاولتنا للعزلة، نجد أنّ هذا شبه ميؤس منه، نحن كائنات اجتماعية بجدارة ولا مفرّ من ذلك، وأنا أقصد هُنا "اجتماعية" ليس بمعنى التّفاعل مع من حولنّا، ولكن اجتماعية بمعني التآثر والتآثير؛ وبرأيي أنّ الأدب هو أهم بوّابة تفتح لنّا امكانيات لا نهائية لهذا التّفاعل مع الأخرين، فالأدب هو ثراء، يثرينا لانهائيًا، داخليًا من خلال الفكر والشّعُور والحواس والروّح، وخارجيًا من خلال الارتقاء بلغتنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الأخرين، فهو ليس متعة فقط، بل هو سبيلاً للعيش.
هُناك وجهة نظرٍ تقول أنّ الأعمال الأدبيّة أو بعضُها حتّي لا نُعمّم ،مخصصة للنخبة من المثقّفين، وهذا أيضًا خطأ، فالأدب مُخصّص للجميع ومُتاح للجميع، وبه ومن خلاله يمكن لكُلّ إنسانٍ أن يجد ذاته، هُويّتُه، قدرُهُ في هذا الوُجُود كإنسانٍ، وستونر هو عمل أدبي يُجسّد هذه الجملة تحديدًا.

جون ويليامز  (١٩٢٢-١٩٩٤) روائي وشاعر أمريكيّ ألّف ٤ روايات، الأخيرة لم يُكملها، أهمُّها رواية "أغسطس" ورواية "ستونر" وأصدر ديوانين، كانت أعمالُه تلقّى نجاحٍ بسيطٍ وغالبًا طبعاتٍ محدُودةً وينتهي الأمر بسلام، درس البكالوريوس والماجستير في جامعة «دنفر» ودرس الدكتوراه في جامعة «ميزوري»، ثُمّ بعد ذلك عاد ليُدرس في جامعة «دنفر» شعر عصر النّهضة والكتابة الإبداعيّة، كتب رواية ستونر التي تدوّر أحداثُها في جامعة «ميزوري»، وفي رأيي أنّ هذه الرواية أقربُ إلى السّرد الذّاتيّ رغم نفي ويليامز ذلك في المُقدّمة -هذا النّفي الّذي يصلُح أنّ يكون قرينة اثبات- والّتي يُمكّنّ لمن يقراء السيّرُ الذّاتيّة أنّ يكتشف بكلّ سُهُولةٍ أنّ ويليامز يتحدّثُ عن نفسه مع بعض الاختلافات البسيطة الّتي يستلزمُها التّخيّل، أحد أصدقائه يصفهُ بأنّهُ (هيمنغواي دون صخب وفيتزجيرالد دون أناقة) ويقول يكادُ يكون مشهُورًا لكونهُ ليس مشهُورًا، نُشرت ستونر في مُنتصف الستّينات من القرن الماضي، ولم تلقّى النّجاح الّذي تستحقُّهُ وقت صُدُورها، هل ممكن أنّ رواية كهذه لم تنجّح وقت نشرها؟ كثيرُون يعزُون ذلك إلى الثّقافة الأمريكيّة السّائدة وقتُها، الّتي كانت تفضُّل رواية عن بطلٍ ناجح، وليس رواية عن شخصٍ عادي كويليام ستونر، أيضًا يعُوُد السّبب في ذلك إلى أنّ تلك الفترة التّاريخيّة كانت لا تتحمّل هذا النّوع من الأدب، فالكُتُب الّتي كانت سائدة وقتُها كانت تتحدّثُ عن الخيال العلميّ والوُجُوديّة والحرب العالمية الثّانية، الحرب الّتي تظهرُ في رواية ستونر كخلفيّة للمشهد، فكان من الصّعب على القارئ الأمريكيّ أنّ يتقبّل من يخبرُهُ بأنّ ذلك الوُجُود عبثي بشكل يصل إلى العدميّة، كان الإنسان وقتُها في مرحلة إثبات وُجُوده، كان من المُبكر جدًّا أن يُخبره أحد بلا جدوي الأشياء.

يُركّز جون ويليامز  في هذا النّصّ الأدبي على شخصيّته الرّئيسيّة ستونر وحياة المقرّبين منهُ وعلاقاتُهم به، كصديقة ماسترس والآثر الذي تركهُ داخلهُ حتّى بعد موته ورغم عُمر صداقتهما القصير، وعلاقتُهُ العاطفية الحقيقة الوحيدة ب كاثرين الّتي أعادة صياغة مفهُومه للحب، وزوجتُه إديث الّتي قد أعتبرها من أهمّ الألغاز المحوريّة في الرواية، وعلاقة زواجهم المضطربة، ‏‎كذلك علاقتّه بإبنته وأساتذته ووالديه والجامعة والحياة الأكاديميّة، أمّا الأحداث الخارجيّة الكبيرة المُؤثّرة كالحرب فنجد انها تسير كخلفية مع تاريخ هؤلاء الأبطال كضرُورةٍ فنّيّةٍ تكميليّةٍ لزمن الحدث الرّوائيّ، ويليامز لا يُحمّلُ شخصيّاتهُ أفكارٍ عظيمة وبطُوليّةٍ، ولا يجعلُها شخصيّاتٍ خارقةً تظهر بصُورة البطل النّادر أو تُقدّم قصّة كفاحٍ ونجاح، ولكنّ هذه الشّخصيّات تحملُ بين ثناياها مساحات هائلة من الأسئلة والأفكار، لا يتّجه مثلًا إلى مصير الكائن البشريّ أو قلقهُ أو عذاباتُه بشكل مُباشر، ولكنّهُ يبحث في شخصيّاته ومسيرة حياتهم ويُظهر الجوانب النّفسيّة لتلك الشّخصيّات بطريقة فلسفيّة بسيطة وواقعيّة بدرجة عظيمة، وذلك ما دفعني للتأمُل أكثر .
شارك كاتب الرواية جون ويليامز في الحرب ولقد رأى الكثير من الدّم، الكثير من القتل الأعمى، وظلّ يُعاني بقيّة حياته من عُقدة النّاجي كما ذكرت زوجته في أحدى المّقابلات، وأعتقد أنّهُ لذلك سمح لستونر أن يتّخذ قرارًا صائبًا، وهو ألا يفكر في الحرب أو في الذّهاب أليها، ففي الوقت الذي يذهب فيه غالبيّة الشباب تحت ضغط الشّعُور القومي إلى الحرب، يُقرر ستونر أن يبقى في الجامعة، لم يذهب للحرب، ولم يجد بداخلهُ كراهية للالمان، وإن كان هُناك شُعُور بالاستياء قد توالد في نفسهُ، فهو استياء من التّمزّق الّذي وجده في الجامعة بسبب الحرب، وعلى عكس الكثيرُون الّذين قد يَرَوْا في تصرُّف ستونر هذا جُبنًا أو افتقارٍا للإرادة، فأنا أعتقد أنّهُ كان لديه أرادة قوية وشجاعة، سمحت لهُ بألا يهتمّ بما يتوقّعهُ العالم منهّ، فهو يعرف نفسهُ (لا يحتاج مثلاً للذّهاب للحرب ليُثبت شيئًا لأحد)، فهذه إرادة يُحسد عليها.
تتناول الرواية أحداث تاريخيّة شهيرة مثل الحرب العالميّة الأولى، وفترة الكساد الاقتصاديّ الّذي عصف بالاقتصاد الأمريكيّ، مُحاولًا جون ويليامز أن ينقل لنّا التّأثيرات الّتي يُمكن أن تنعكس على الأشخاص المُباشرين لهذا، وقد ذكّرني هذا الأمر بالكثير منّا الذين لا يُدركُون علاقتهُم المُباشرة بالوطن أو أيّ مُحيط خارج أنفُسهُم، ليس لأنّهُم يُقرّرُون الانتماء من عدمُه، بل لأنّ الأمُور تسير علي هذا النحو ببساطة، فقد يستغرقُ المرءُ منّا في عالمه الخاصّ بعيدًا عن أيّ نجاحٍ أو بُطُولة تشهد علي قصص كفاحه في الحياة، ولكنّي أعتقد أن ستونر حالة مختلفة تمامًا، هو حالة خاصّة واستثنائيّة، قد تتشابه مع البعض وقد تتقاطع التّفاصيل مع بعض الأحداث في حياة البعض منّا، ولكنّ شخصيّة ستونر ليست الغالبة أو المُعتادة، لقد كان لديه تعامُل شديد الخُصُوصيّة في كلّ مواقف ومُنعطفات الحياة، كان يُدرك ما يُريد ويفعل ما يُريد، وقد منحهُ هذا هُويّة خاصّة ومّنفردة.
أكد جون ويليامز كاتب الروية في حوار صحفي لهُ أنّ ستونر بطل حقيقي لم يعش حياةً بائسةٍ كما يعتقد القارئ
‏حيثُ يقوّلّ: "لقد كان ستونر بطلًا حقيقيًّا، كثير ممّن يقرءون الرواية يظنُّون أنّ حياة ستونر كانت سيئة وحزينة، أعتقد أنّ حياته كانت جيّدة جدًّا، ‏كانت حياته أفضلُ من حياة كثيرٍ من النّاس فقد كان يعمل ما يريد عملُهُ، عملُهُ منحهُ هُويّة خاصة وصنع شخصيّته".
قال ويليامز  أنّهُ أدرك ما سيشعُرُ به القُرّاء بعدما رأى سكرتيرتهُ وهي تطبعُ الفصل الأخير والدّمعُ ينحدر على خدّها.

أري أنّني أسهبتُ في الحديث عن "ستونر" بالفعل، ولكنّي مازلتُ أشعر بإجحاف في حقّ هذه الشّخصيّة، ستونر والّتي أعتبرُها من أكثر الشّخصيّات تعقيدًا، لقد كانت كُلُّ هذه الأحداث والأفكار تدُور داخل شخصٍ صامت أغلب الوقت، لذلك أعتقد أنّهُ تجسيّدًا لحقيقتنا الإنسانيّة المُركّبة من عشرات الأبعاد والتّناقُضات، ورُبّما هذا هو سبّب تأثُّري الشّديد بالرواية، وبصراحة أرعبتني الرواية في بداية الأمر، ووجدتُ نفسي أتساءلُ بأحباط شديد ..
أهذه هي الحياة ؟
أهذا كُلُّ شيء؟
حسبتُ أنّ هُناك المزيد ...
هل هذه الحياة تستحقُّ عيشها ؟ ثُمّ مع الوقت بدأت أشعر أنّ كلّ شيءٍ يمضي حقًّا، ورُبّما أن تمضي الحياة بوتيرةٍ بطيئةٍ كحياة ستونر لهو أفضل من استعجلها.
كما يقُول محمود درويش:
"سَيَرَى بِبُطْءٍ يَا حَيَاةٌ لِكَيْ أَرَاكَ بِكَامِلٍ النُّقْصَانُ حَوْلَي"


أيضًا ولعلّ السّبب الّذي جعل هذه الرواية تُحدثُ هذا الآثر في نفسيّ، هو أنّ ستونر كان خارج النسق، رغم أنّهُ رجُلُ الحياة العاديّة، رجُلُ اللّامبالاة، رجُل يعيش ويُفكّر ويتصرّف ويمّوت بطريّقةٍ عاديّةٍ، لقد دفعني للتّأمُل والتّساؤُل كثيرًا،
ماذا لو كانت الحياة بطيئة؟
ماذا لو كانت الحياة عادية ؟
ماذا لو كُنتُ أنا ستونر أخر ؟
وبمُرافقة ستونر من أوّل صفحة للنّهاية، وجدتُ أنّني لا أنتظر منهُ أن يكُون بطلًا، أن يواجه إخفاقاتُهُ ومعضلاتهُ بقُوّةً وشجاعة، أو أن يُبرّرُ فلسفتهُ للجميع أو أن يتبنّي رُؤيةً أو يُنكرُ غيرها، لقد كان في عاديتهُ هذه استثنائيًّا وهذا يكفي، وفي رأيي أنّ ستونر ما كان ليعيش حياتهُ بغير هذا لو مُنحت لهُ الحياة مجددًا، هو هكذا. فمن أنا لأقرّر كيف يعيش هو؟!

(صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ، أنتَ وحدك الحقيقيّ)... بسام حجار.


كتابة جون ويليامز رائعة وبناءهُ السردي عظيم ومُترابط، وتتجلّى موهبتهُ في قُدرته على حبك رواية شديدة الجمال من قصّة حياة شديدة العادية، الرواية مكتوبة بلُغة عاطفيّة آسره جدًّا، لقد كان قلبي يخفقُ بشدّة أثناء قراءتي لها لشدّة تأثُّري بجماليّة النّصّ، والمُفارقة هُنا أن يكُون النّص مكتوب بمثل هذه اللُّغة النثرية المصاغة بدقّةً وبارعة وجماليّة للغاية، وأنّ يحمل معهُ هذا الكمّ الهائل من الألم المرارة.

ستونر ابن القرية المُزارع الّذي دفعهُ والده العاجز عن حلّ أزمات مزرعته وجفاف أرضها، إلى أن يلتحق بالجامعة ليدرس الزراعة، ويعُود إلى المزّرعة ليستخدم ما تعلّمه في سبيل تنمية المزرعة ومساعدة والده ووالدته في أمُور حياتهُم، وفي لحظة تجلًّ كان فيها خارج الزّمن حين سمع سونيتة لشكسبير، لم يلبثُ بعدها إلا أن غيّر مسار دراسته من الزّراعة إلى الأدب، وبكُلّ هذه السّلاسة السردية والانثيال العاطفيّ الآسر وغير المُضجر، ندخُل إلى عالم ستونر، فنصدم بمواقفه في الكثير من الافكار والمواقف في الحياة مثل الحب، فنجد الكاتب يقُول عن ستونر :
«في شبابه ظن ستونر أن الحب حالة وجودية صرفة قد يدركها المرء إن كان محظوظا وفي سنين نضجه قرر أن الحب هو نعيم خادع يجب ان يحدق فيه المرء بكفر مرح وعصيان مألوف وطيب وحنين مرتبك. والآن بدأ يدرك وهو في منتصف العمر أن الحب لا هو بحالة إجلال ولا هو بوهم، بل تحرك إنساني نحو الصيرورة، ظرف يتم اختلاقه وتعديله يومًا بعد يوم ودقيقة تلو الاخرى بالإرادة والعقل والقلب.»،
وعن  الموت يقُول:
«حين كان يفكر في الموت من قبل كان يعده أما حدثا أدبيًا أو أنه الإنهاك البطيء الهادئ الذي يفعله الزمن في الجسد الفاني. لم يفكر فيه كأنفجار عنيف في معركة أو تدفق دم مفاجئ من رقبة.»
وعن الوحدة:
«لم يكن لديه أصدقاء، ولأول مرة في حياته شعر بالوحدة. كان أحيانًا وهو في عليته، في الليل، يتوقف عن القراءة ويتطلع لأركان غرفته المظلمة حيث يتراقص لهب المصباح في الظلام، ان حدق طويلًا بتركيز تتجمع الظلمة في كتلة ضوء تتخذ الشكل اللامادي لما كان يقرأه، ويشعر بأنه خرج من الزمن كما حدث ذاك اليوم في قاعة الدرس حين وجه اليه ارشر سلوان حديثه، يتجمع الماضي ويخرج من الظلام، حيث ظل قابعًا، ويعود الموتى إلى الحياة يقفون أمامه، ويسير الماضي والموتى في الحاضر بين الأحياء وفي لحظة زاخرة تأتيه رؤية كثيفة فينمدج فيها دون أن يستطيع الخروج منها، ودون أن يرغب في الخروج منها»


كانت حياة ستونر زاخرة وكثيفة رغم الرّتابة والبُطء الّتي تُغلّفُ أيّامُهُ، شعرتُ أنّني أتهاوى في شخصيّته أكثر من اللّازم ولم أخرج بعد ، فلم يبتعد ظلُّ ستونر عنّي حتّى الآن، شعرتُ كما لو أنّني كُنتُ بجانب نفسي، وانتابني حُزنٌ عميق لا تفسير لهُ، رُبّما لأنّني رأيتني فيها بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة، كم تقاطعت مشاعرُهُ وإخفاقاتُهُ وصدماتُه وخيبة أمله بالحياة معي في الكثير من تجربتي الشّخصيّة، لا اعلم كم يلزم من الوقت لأتجاوز نصًا ادبيًا كهذا، رُبّما لن افعلُ ابدًا.