دائمًا مانقع في حب الأشخاص والأشياء الّتي تلامس شيئًا عميقًا في داخلنّا، وغالبًا نجد أنّنا نرتبط ببعض الكتب والأعمال الأدبيّة بشكلٍ مميّز عن غيرها، ومن بين كلّ الأعمال الرّوائيّة الّتي قرأتها هنالك ثلاث روايات تشعلُ الغضب بداخليّ لدرجة أنني كرهتُها قليلاً أثناء قراءتي لها، فقد كان كُرهي هذا نابع من حُبّي لها، تحديدًا حُبّي لأبطالها.
رواية "ستونر" لجون ويليامز وبطلها ويليامز ستونر.
رواية "شيطنات الطفلة الخبيثة" ليوسا وبطلها ريكاردو.
رواية "الأبله" لدستويفسكي وبطلها الأمير ميشكين.
الثلاث شخصيّات كُنت أتمنّى لو أستطيع أن أخرجها من النّصّ، أصرُخُ بها، ألعنُها، أصفعُها، ثُمّ أعيدها للنّصّ لتُكمل المُعاناة الّتي جلّتني أرتبط بها.
من منّا بهذا الوقت يُمكن أن يتعرّف إلى ميشكين، ولا يشعُر بالقلق من طيبته المبالغ بها بعُرف زمننا هذا، من يُمكنُهُ أن يرى ما يفعله ستونر -أو بالأحرى ما لم يفعله ستونر- ويستطيع أن يمتنع عن الصُّراخ بوجهه، قائلاً لماذا لم تّتخذ هذا الموقف أو ذاك، لماذا يا ستونر ؟
أمّا ريكاردو فهذا لا يوجد به رائحة الأمل، تمنيّتُ أن أقتله.
بعض القراء يتصور أنّ الرواية هي مجرد خدر مؤقت، لتلهيّك عن واقعك المرير أو بأقلّ تقدير تجعلك تتهرّب منه قليل من الوقت ثمّ تعود لتواجه قُبحه، ولكنّ أيّ خطأ يقع فيه هؤلاء!
وكي أكون أكثر وضوحًا هُنا، أنا أتحدث عن "العمل الروائي والأدبي الحقيقي" ولكن تقرأون أشياء كحبيبي أنا أحبُّك كثيرًا لماذا تركتني، وتعتقدون أنّ هذا أدب أو رواية ! آسفة.. هذا ليس حتى هروب هذا انتحار بطيء.
سأُخص بالذكر هنا رواية "ستونر"، أريد أنّ أتحدث عن هذه الرواية حتى لا أنتهي، أريد أنّ أفيض وأسترسل في الكلام عن هذه الرواية العظيمة، أريد أنّ أترجم فهمي لهذه الشخصية ولكنّي عاجزة ولُغتي تخونني، تخونني حتمًا.
"ستونر" بالنسبة لي كانت رواية هروب إلى الواقع وليس من الواقع، وأعني بقولي هذا أنّك ببساطة تشعر وأنت تقرأ مثل هكذا أعمال أنّ هناك من يحملُك ويضعك أمام أقرب مرآةٍ ويقول لك انظر يا عزيزي ! هل تعتقد الأن أنّك تهرب من واقعك؟ عفوًا .. أنت غارق به لأقصاك.
كما ذكرتُ في مقدّمة حديثي أنّنا نرتبط ببعض الأعمال الأدبيّة والفنيّة أكثر من غيرها ،كمقطُوعة شعريّة أو موسيقيّة بعينها أو لوحة أو رواية أو حتّي مكان، يعود هذا الأمر إلى أنّ تلك الأعمال تمس شيّئًا فيّنا شخصيًا ،وغالبًا متي بدأنا مشاهدة فيلم ما أو سماع معزوفة أو قراءة كتاب، فهذه التجربة لاتكون مجردة من حُمولتنا الفكريّة والشعوريّة وحتّى القرائيّة السابقة، ولا تكون بمعزلٍ عن مُعتقداتٍّ وأهدافٍ كلاً منّا، وبالتالي تختلف القراءات، فقد يجدُ البعض مثلاً أنّ "ستونر" رواية عادية لا يوجد بها ما يستحق الذّكر أو الاهتمام، حتّي أنّني عند حديثي عنها مع صديقة وكانت قد قرأتها بعد ترشيحي الرواية لها، رغم أنّي لا أحب تقديم توصياتي ليقيني أنّ اطّلاعي محدود وصعب عليّ أن أنتقيّ لغيري، ولكنّها كانت قد سألتني بشأن تقديم توصيات روائيّة، ثم بعد أن قرأت ستونر قالت لي أنّ حديثي عنها مجرد مبالغة عاطفيّة أو أدبيّة، وأنّ "ستونر" لا يُوجد بها ما يُثير اهتمام وحماس القارئ ولا محلّ لها في سياق الأدب المنتشر الآن، واستشعرتُ من حديثها أنّ لديها تفاعُل قليل جدًّا مع شخصيّة ستونر، وقد يجدُ البعض الأخر أنّ ستونر شخصيّة تحمُّلٍ أفاق نفسيّة واسعة جدًّا، لذلك أعتقد أنّ هذا يعتمد على استجابتنا كقُراء.
اغلبُنا يعيشُ في مجالات ضيّقة جغرافيًا وثقافيًا، وقراءة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى قد تمنحُنا فُرصة عظيمة وتوسع لنّا الرؤية إلى خارج هذا المجال الضّيّق، تساعدنا علي الفهم، فالأدب تحديدًا قد يمنحُنا فرصة عيش التجارب التي لا نستطيع عيشُها في الحياة، يمنحُنا فرصة عيشُها وفهمُها، فهم الأخر، واكتشاف وفهم ذواتنا من خلاله، فابالنسبة لي الأدب أكثر كثافة وإفصاحًا من الحياة اليوميّة، لكنّه لا يختلف عنها كثيرًا، فقط إنه يُوسع عالمنا ورؤيتنا له ويحثنا على اكتشاف طرائق أخرى لتصور هذا العالم وإعادة تنظيمه والتّعامل معه، فنحنُ لا نستطيع العيش بمُفردنا حتّي لو رغبنا في ذلك، فرغم كُلّ محاولتنا للعزلة، نجد أنّ هذا شبه ميؤس منه، نحن كائنات اجتماعية بجدارة ولا مفرّ من ذلك، وأنا أقصد هُنا "اجتماعية" ليس بمعنى التّفاعل مع من حولنّا، ولكن اجتماعية بمعني التآثر والتآثير؛ وبرأيي أنّ الأدب هو أهم بوّابة تفتح لنّا امكانيات لا نهائية لهذا التّفاعل مع الأخرين، فالأدب هو ثراء، يثرينا لانهائيًا، داخليًا من خلال الفكر والشّعُور والحواس والروّح، وخارجيًا من خلال الارتقاء بلغتنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الأخرين، فهو ليس متعة فقط، بل هو سبيلاً للعيش.
هُناك وجهة نظرٍ تقول أنّ الأعمال الأدبيّة أو بعضُها حتّي لا نُعمّم ،مخصصة للنخبة من المثقّفين، وهذا أيضًا خطأ، فالأدب مُخصّص للجميع ومُتاح للجميع، وبه ومن خلاله يمكن لكُلّ إنسانٍ أن يجد ذاته، هُويّتُه، قدرُهُ في هذا الوُجُود كإنسانٍ، وستونر هو عمل أدبي يُجسّد هذه الجملة تحديدًا.
جون ويليامز (١٩٢٢-١٩٩٤) روائي وشاعر أمريكيّ ألّف ٤ روايات، الأخيرة لم يُكملها، أهمُّها رواية "أغسطس" ورواية "ستونر" وأصدر ديوانين، كانت أعمالُه تلقّى نجاحٍ بسيطٍ وغالبًا طبعاتٍ محدُودةً وينتهي الأمر بسلام، درس البكالوريوس والماجستير في جامعة «دنفر» ودرس الدكتوراه في جامعة «ميزوري»، ثُمّ بعد ذلك عاد ليُدرس في جامعة «دنفر» شعر عصر النّهضة والكتابة الإبداعيّة، كتب رواية ستونر التي تدوّر أحداثُها في جامعة «ميزوري»، وفي رأيي أنّ هذه الرواية أقربُ إلى السّرد الذّاتيّ رغم نفي ويليامز ذلك في المُقدّمة -هذا النّفي الّذي يصلُح أنّ يكون قرينة اثبات- والّتي يُمكّنّ لمن يقراء السيّرُ الذّاتيّة أنّ يكتشف بكلّ سُهُولةٍ أنّ ويليامز يتحدّثُ عن نفسه مع بعض الاختلافات البسيطة الّتي يستلزمُها التّخيّل، أحد أصدقائه يصفهُ بأنّهُ (هيمنغواي دون صخب وفيتزجيرالد دون أناقة) ويقول يكادُ يكون مشهُورًا لكونهُ ليس مشهُورًا، نُشرت ستونر في مُنتصف الستّينات من القرن الماضي، ولم تلقّى النّجاح الّذي تستحقُّهُ وقت صُدُورها، هل ممكن أنّ رواية كهذه لم تنجّح وقت نشرها؟ كثيرُون يعزُون ذلك إلى الثّقافة الأمريكيّة السّائدة وقتُها، الّتي كانت تفضُّل رواية عن بطلٍ ناجح، وليس رواية عن شخصٍ عادي كويليام ستونر، أيضًا يعُوُد السّبب في ذلك إلى أنّ تلك الفترة التّاريخيّة كانت لا تتحمّل هذا النّوع من الأدب، فالكُتُب الّتي كانت سائدة وقتُها كانت تتحدّثُ عن الخيال العلميّ والوُجُوديّة والحرب العالمية الثّانية، الحرب الّتي تظهرُ في رواية ستونر كخلفيّة للمشهد، فكان من الصّعب على القارئ الأمريكيّ أنّ يتقبّل من يخبرُهُ بأنّ ذلك الوُجُود عبثي بشكل يصل إلى العدميّة، كان الإنسان وقتُها في مرحلة إثبات وُجُوده، كان من المُبكر جدًّا أن يُخبره أحد بلا جدوي الأشياء.
يُركّز جون ويليامز في هذا النّصّ الأدبي على شخصيّته الرّئيسيّة ستونر وحياة المقرّبين منهُ وعلاقاتُهم به، كصديقة ماسترس والآثر الذي تركهُ داخلهُ حتّى بعد موته ورغم عُمر صداقتهما القصير، وعلاقتُهُ العاطفية الحقيقة الوحيدة ب كاثرين الّتي أعادة صياغة مفهُومه للحب، وزوجتُه إديث الّتي قد أعتبرها من أهمّ الألغاز المحوريّة في الرواية، وعلاقة زواجهم المضطربة، كذلك علاقتّه بإبنته وأساتذته ووالديه والجامعة والحياة الأكاديميّة، أمّا الأحداث الخارجيّة الكبيرة المُؤثّرة كالحرب فنجد انها تسير كخلفية مع تاريخ هؤلاء الأبطال كضرُورةٍ فنّيّةٍ تكميليّةٍ لزمن الحدث الرّوائيّ، ويليامز لا يُحمّلُ شخصيّاتهُ أفكارٍ عظيمة وبطُوليّةٍ، ولا يجعلُها شخصيّاتٍ خارقةً تظهر بصُورة البطل النّادر أو تُقدّم قصّة كفاحٍ ونجاح، ولكنّ هذه الشّخصيّات تحملُ بين ثناياها مساحات هائلة من الأسئلة والأفكار، لا يتّجه مثلًا إلى مصير الكائن البشريّ أو قلقهُ أو عذاباتُه بشكل مُباشر، ولكنّهُ يبحث في شخصيّاته ومسيرة حياتهم ويُظهر الجوانب النّفسيّة لتلك الشّخصيّات بطريقة فلسفيّة بسيطة وواقعيّة بدرجة عظيمة، وذلك ما دفعني للتأمُل أكثر .
شارك كاتب الرواية جون ويليامز في الحرب ولقد رأى الكثير من الدّم، الكثير من القتل الأعمى، وظلّ يُعاني بقيّة حياته من عُقدة النّاجي كما ذكرت زوجته في أحدى المّقابلات، وأعتقد أنّهُ لذلك سمح لستونر أن يتّخذ قرارًا صائبًا، وهو ألا يفكر في الحرب أو في الذّهاب أليها، ففي الوقت الذي يذهب فيه غالبيّة الشباب تحت ضغط الشّعُور القومي إلى الحرب، يُقرر ستونر أن يبقى في الجامعة، لم يذهب للحرب، ولم يجد بداخلهُ كراهية للالمان، وإن كان هُناك شُعُور بالاستياء قد توالد في نفسهُ، فهو استياء من التّمزّق الّذي وجده في الجامعة بسبب الحرب، وعلى عكس الكثيرُون الّذين قد يَرَوْا في تصرُّف ستونر هذا جُبنًا أو افتقارٍا للإرادة، فأنا أعتقد أنّهُ كان لديه أرادة قوية وشجاعة، سمحت لهُ بألا يهتمّ بما يتوقّعهُ العالم منهّ، فهو يعرف نفسهُ (لا يحتاج مثلاً للذّهاب للحرب ليُثبت شيئًا لأحد)، فهذه إرادة يُحسد عليها.
تتناول الرواية أحداث تاريخيّة شهيرة مثل الحرب العالميّة الأولى، وفترة الكساد الاقتصاديّ الّذي عصف بالاقتصاد الأمريكيّ، مُحاولًا جون ويليامز أن ينقل لنّا التّأثيرات الّتي يُمكن أن تنعكس على الأشخاص المُباشرين لهذا، وقد ذكّرني هذا الأمر بالكثير منّا الذين لا يُدركُون علاقتهُم المُباشرة بالوطن أو أيّ مُحيط خارج أنفُسهُم، ليس لأنّهُم يُقرّرُون الانتماء من عدمُه، بل لأنّ الأمُور تسير علي هذا النحو ببساطة، فقد يستغرقُ المرءُ منّا في عالمه الخاصّ بعيدًا عن أيّ نجاحٍ أو بُطُولة تشهد علي قصص كفاحه في الحياة، ولكنّي أعتقد أن ستونر حالة مختلفة تمامًا، هو حالة خاصّة واستثنائيّة، قد تتشابه مع البعض وقد تتقاطع التّفاصيل مع بعض الأحداث في حياة البعض منّا، ولكنّ شخصيّة ستونر ليست الغالبة أو المُعتادة، لقد كان لديه تعامُل شديد الخُصُوصيّة في كلّ مواقف ومُنعطفات الحياة، كان يُدرك ما يُريد ويفعل ما يُريد، وقد منحهُ هذا هُويّة خاصّة ومّنفردة.
أكد جون ويليامز كاتب الروية في حوار صحفي لهُ أنّ ستونر بطل حقيقي لم يعش حياةً بائسةٍ كما يعتقد القارئ
حيثُ يقوّلّ: "لقد كان ستونر بطلًا حقيقيًّا، كثير ممّن يقرءون الرواية يظنُّون أنّ حياة ستونر كانت سيئة وحزينة، أعتقد أنّ حياته كانت جيّدة جدًّا، كانت حياته أفضلُ من حياة كثيرٍ من النّاس فقد كان يعمل ما يريد عملُهُ، عملُهُ منحهُ هُويّة خاصة وصنع شخصيّته".
قال ويليامز أنّهُ أدرك ما سيشعُرُ به القُرّاء بعدما رأى سكرتيرتهُ وهي تطبعُ الفصل الأخير والدّمعُ ينحدر على خدّها.
أري أنّني أسهبتُ في الحديث عن "ستونر" بالفعل، ولكنّي مازلتُ أشعر بإجحاف في حقّ هذه الشّخصيّة، ستونر والّتي أعتبرُها من أكثر الشّخصيّات تعقيدًا، لقد كانت كُلُّ هذه الأحداث والأفكار تدُور داخل شخصٍ صامت أغلب الوقت، لذلك أعتقد أنّهُ تجسيّدًا لحقيقتنا الإنسانيّة المُركّبة من عشرات الأبعاد والتّناقُضات، ورُبّما هذا هو سبّب تأثُّري الشّديد بالرواية، وبصراحة أرعبتني الرواية في بداية الأمر، ووجدتُ نفسي أتساءلُ بأحباط شديد ..
أهذه هي الحياة ؟
أهذا كُلُّ شيء؟
حسبتُ أنّ هُناك المزيد ...
هل هذه الحياة تستحقُّ عيشها ؟ ثُمّ مع الوقت بدأت أشعر أنّ كلّ شيءٍ يمضي حقًّا، ورُبّما أن تمضي الحياة بوتيرةٍ بطيئةٍ كحياة ستونر لهو أفضل من استعجلها.
كما يقُول محمود درويش:
"سَيَرَى بِبُطْءٍ يَا حَيَاةٌ لِكَيْ أَرَاكَ بِكَامِلٍ النُّقْصَانُ حَوْلَي"
أيضًا ولعلّ السّبب الّذي جعل هذه الرواية تُحدثُ هذا الآثر في نفسيّ، هو أنّ ستونر كان خارج النسق، رغم أنّهُ رجُلُ الحياة العاديّة، رجُلُ اللّامبالاة، رجُل يعيش ويُفكّر ويتصرّف ويمّوت بطريّقةٍ عاديّةٍ، لقد دفعني للتّأمُل والتّساؤُل كثيرًا،
ماذا لو كانت الحياة بطيئة؟
ماذا لو كانت الحياة عادية ؟
ماذا لو كُنتُ أنا ستونر أخر ؟
وبمُرافقة ستونر من أوّل صفحة للنّهاية، وجدتُ أنّني لا أنتظر منهُ أن يكُون بطلًا، أن يواجه إخفاقاتُهُ ومعضلاتهُ بقُوّةً وشجاعة، أو أن يُبرّرُ فلسفتهُ للجميع أو أن يتبنّي رُؤيةً أو يُنكرُ غيرها، لقد كان في عاديتهُ هذه استثنائيًّا وهذا يكفي، وفي رأيي أنّ ستونر ما كان ليعيش حياتهُ بغير هذا لو مُنحت لهُ الحياة مجددًا، هو هكذا. فمن أنا لأقرّر كيف يعيش هو؟!
(صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ، أنتَ وحدك الحقيقيّ)... بسام حجار.
كتابة جون ويليامز رائعة وبناءهُ السردي عظيم ومُترابط، وتتجلّى موهبتهُ في قُدرته على حبك رواية شديدة الجمال من قصّة حياة شديدة العادية، الرواية مكتوبة بلُغة عاطفيّة آسره جدًّا، لقد كان قلبي يخفقُ بشدّة أثناء قراءتي لها لشدّة تأثُّري بجماليّة النّصّ، والمُفارقة هُنا أن يكُون النّص مكتوب بمثل هذه اللُّغة النثرية المصاغة بدقّةً وبارعة وجماليّة للغاية، وأنّ يحمل معهُ هذا الكمّ الهائل من الألم المرارة.
ستونر ابن القرية المُزارع الّذي دفعهُ والده العاجز عن حلّ أزمات مزرعته وجفاف أرضها، إلى أن يلتحق بالجامعة ليدرس الزراعة، ويعُود إلى المزّرعة ليستخدم ما تعلّمه في سبيل تنمية المزرعة ومساعدة والده ووالدته في أمُور حياتهُم، وفي لحظة تجلًّ كان فيها خارج الزّمن حين سمع سونيتة لشكسبير، لم يلبثُ بعدها إلا أن غيّر مسار دراسته من الزّراعة إلى الأدب، وبكُلّ هذه السّلاسة السردية والانثيال العاطفيّ الآسر وغير المُضجر، ندخُل إلى عالم ستونر، فنصدم بمواقفه في الكثير من الافكار والمواقف في الحياة مثل الحب، فنجد الكاتب يقُول عن ستونر :
«في شبابه ظن ستونر أن الحب حالة وجودية صرفة قد يدركها المرء إن كان محظوظا وفي سنين نضجه قرر أن الحب هو نعيم خادع يجب ان يحدق فيه المرء بكفر مرح وعصيان مألوف وطيب وحنين مرتبك. والآن بدأ يدرك وهو في منتصف العمر أن الحب لا هو بحالة إجلال ولا هو بوهم، بل تحرك إنساني نحو الصيرورة، ظرف يتم اختلاقه وتعديله يومًا بعد يوم ودقيقة تلو الاخرى بالإرادة والعقل والقلب.»،
وعن الموت يقُول:
«حين كان يفكر في الموت من قبل كان يعده أما حدثا أدبيًا أو أنه الإنهاك البطيء الهادئ الذي يفعله الزمن في الجسد الفاني. لم يفكر فيه كأنفجار عنيف في معركة أو تدفق دم مفاجئ من رقبة.»
وعن الوحدة:
«لم يكن لديه أصدقاء، ولأول مرة في حياته شعر بالوحدة. كان أحيانًا وهو في عليته، في الليل، يتوقف عن القراءة ويتطلع لأركان غرفته المظلمة حيث يتراقص لهب المصباح في الظلام، ان حدق طويلًا بتركيز تتجمع الظلمة في كتلة ضوء تتخذ الشكل اللامادي لما كان يقرأه، ويشعر بأنه خرج من الزمن كما حدث ذاك اليوم في قاعة الدرس حين وجه اليه ارشر سلوان حديثه، يتجمع الماضي ويخرج من الظلام، حيث ظل قابعًا، ويعود الموتى إلى الحياة يقفون أمامه، ويسير الماضي والموتى في الحاضر بين الأحياء وفي لحظة زاخرة تأتيه رؤية كثيفة فينمدج فيها دون أن يستطيع الخروج منها، ودون أن يرغب في الخروج منها»
كانت حياة ستونر زاخرة وكثيفة رغم الرّتابة والبُطء الّتي تُغلّفُ أيّامُهُ، شعرتُ أنّني أتهاوى في شخصيّته أكثر من اللّازم ولم أخرج بعد ، فلم يبتعد ظلُّ ستونر عنّي حتّى الآن، شعرتُ كما لو أنّني كُنتُ بجانب نفسي، وانتابني حُزنٌ عميق لا تفسير لهُ، رُبّما لأنّني رأيتني فيها بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة، كم تقاطعت مشاعرُهُ وإخفاقاتُهُ وصدماتُه وخيبة أمله بالحياة معي في الكثير من تجربتي الشّخصيّة، لا اعلم كم يلزم من الوقت لأتجاوز نصًا ادبيًا كهذا، رُبّما لن افعلُ ابدًا.