لمْ أكُنْ أَفْضل مُشاهدة أَفْلام الكرْتُون عَلَى التّلْفَاز, أما أفْلام الكرْتُون الّتي كُنّا نُشاهدُها عَلَى أَشْرطة الفيديو كانت الأقربُ لي, ذلكَ لأنّني استطيع إعادة مُشاهدتها متى أردتُ ولا أخافُ منْ أنْ تنْتهي فبإِمْكاني أنْ أُعيدها آلاف المرّات بضغْطة زرٍّ واحدة, لا أملُّ منْ التَّكْرار, الِمُّهُمْ ألّا ينْتهِي, ألّا يتوقّفُ للأبد, أمّا الأفلام التلفزيونية التّي كُنّا نجتمعُ أنا وأُخُوّتي لنُشَاهدها كُنتُ أُمقّتُها في أَغلب الأَحيان, كانتْ تنتهي بموت البطلة أَو البطل أَو حتّى بانتصار الخيْر عَلَى الشّرّ وزواج البطل والبطلة, كُنتُ أَكرهُ هذه النّهايات لِأَنّها تَحَدٍّ منْ خيالاتي ففي خيالي كانتْ تظَلُّ النّهايةُ مفتُوحة للأبد, يُمكنُني تخيُّلُ سيناريُوهاتٍ لَا نهائيَّة لِأيّامٍ وأسابيع أُشطّبُ وأُضيف لها التّفاصيلُ كما يحْلُو لي ولكنّي أتجنّبُ انتهائِهَا, كُنتُ أسرحُ في خيالاتي والجميع من حوليّ كانُوا يعتقدُون بِأنّي طفلة هادئةٌ فقطْ لَا تتحدّثُ كثيرًا ولَا تشاغب, لقد غاب عن الجميع سرُّ خيالي المُتّقد بالحكايات, كُنتُ برفْقة خيالي طفلةٍ محظُوظةٍ وغريبةٍ الأَطْوار في آنٍ معًا .
لكني كُنْتُ دوْمًا أخافُ أنْ تنْتهي الأشياءُ, حتّى أنّها إذا انْتهتْ بالفعْل أدّعي بأنّني لمْ أكُنْ أهْتمُّ بِها اصلّا ولمْ تكُنْ تعْنيني منْ قبلُ ولا منْ بعدِ, وأن تصرُّفي تجَاهَهَا كان بدافع الفُضُول ليْس إلّا, وبذلكَ كنتُ أتجاوزُ النّهايات الغارقة دُونما ابْتلّ, لكِنّي أُصاب بعدّها بِداءِ التّذكُّر الّذي لا ينْتهي, فيجْرُفُني معهُ في بحرًا منْ الدُّمُوع.
عِنْدما كبُرْت رأيْتُ أنّ هَذِهِ السّياسةُ لا تُناسبُ شخْصِيّتُي فغيّرتْ سِياستي هذه تمامًا, صحيحٌ أنّني ما زلْتُ أَخافُ الاِنْتهاء فأتمسّكُ بِالأشْياءِ حتّى لَا تفلّتُّ, ولكنَّها إن أفْلتتْ لا أُلاحقُها أبدًا, أَصْبحْتُ أُعالجُ نفْسي بالمُواجهة, لا أَهرب منْ الأَشْياء, لا أُمسّح أرْقام هواتِف أو صُور لأَشْخاصٍ تركتْ أَيْديهُمْ يدي, ولا حتَّى أُعطي حظْرًا ولا أتجّنبْ الأَغنيات والذّكريات, فقطْ أُواجه, أُعَالج الأمور بِالمُواجهة, أنْظُر إِلَى الصُّورة مئة مرَّة حتّى تُصْبِحُ عاديةٌ, أتْرُكُها تأُذيني آلَاف المُرّات حتّى أَتجاوزها, أَسمع الأُغْنيّة حتّى أَهزمها فتتوقّفُ عن هزمي, أُمِرّ عَلَى الشّخص ملايين المرّات حتّى يُصبِحُ عَادِيًا بالنسبة لي , لقدْ تغلّبت عَلَى خوّفي منْ انتهاء أغلّب العلاقات بحياتي.
قُلْت لِنفسيّ لن تكُوني شجاعة قبل أنّ تذوُّقي ألم الحياةُ, الفقدُ, الخوف, الفشلُ, الضّعفُ...
ممَ تخافين تحديدًا؟ هل تخافين الموت ؟
أتذكّر أنّني سألتُ نفسي هذا السّؤال بِوضُوح قبْل عَامَانِ تقْريبًا مِنْ الآن, وأَنا مُمدّدةٌ عَلَى طاولة الجراحة في غُرْفة العمليَّات, وكانت إِجابتي بالنّفي طبعًا فأنا لستُ من النّوع الّذي يخافُ فقدان حياتهُ, كُنتُ دائمًا مُستعدَّة لِأن أَرحل دُونَ عودةٍ, غير أنّي فقط وقتها كُنتُ غارقة بعددٍ لا يحصى منْ الأَحاسيس والأفْكار, فسألني طَبِيبي وقتهَا فيما أفكّر, خِفّتُ يومُها أنْ أقُول لهُ عنْ مشاعري هذهِ, فيحسُبُ أنّ رأسي امتلأَ بالتّخدير المُنْتشر بالغُرْفة ولمْ أُعدْ واعيةً, فضّلْتُ أنْ أحْتفظ بمشاعري لنفْسيّ, فالكلمات التّي تصفُ الأَحاسيس تظلُّمُ مبْهمة لَدَى الأخر ما لمْ يشعُر بها, فمن الأفصل إذنْ الإعراضُ عنها والاِحتفاظُ بها, والانصرافُ إِلى وصف أَيٌّ شيء أخر, وصفُ الجمادات, الموقف, وحتّى وصف أنفُسُنا, لنقل, الاِنصرافُ إِلى وصف الوقائِع وصفًا واضحًا, فتمتمتُ وقْتُها بِبِضع كلماتٍ عنْ غُرفة العمليّات, وَقُولت لطبيبي أنّني أُفكّرُ في شكل الغُرفة لِأَنّني لم أَدخُل غُرفة عمليّاتٍ منْ قبل, فَرَدَ بابتسامة تُوحي بالتّفهُّم, وقالَ أنّهُ يُعتبرُ هذه الغُرفة بيتهُ ولا يُوجدُ بها أيّ جديدٍ بالنّسْبةِ لهُ, ولكنّ أذا كان يُوجدُ بها ما يُثيرُ اهْتمامك سأُرِيكَي مجمُوعة صوّر للغُرفة حَالَمَا تستَعِيدي وعيك بعد إِتمام الجِراحة بسلام .
لقد انحَرف مسارُ هذه التَّدوينة كثيرًا عمَّا كان بِخَاطري قبْلَ البدء في الكِتَابة, ولكن سأبدء من جديد.
اكْتُبْ هذا وأنا أتأمّلُ عضَةً صغيرةً عَلَى كفّي الأَيمن, وخدّشَ صغير بذراعي الأيسر, أَنّها آثار قطِّي سوكي. في عام 2016 وَتَحدِيدًا يناير, وُصل سوِّكي إلى بيتنا بعُمر الأُسبُوع, كان لِأُختي بِالأَساس أَخذتهُ منْ صديقةٍ لها, صغير بعينين صغيرتين مُشاكستين ولكن تملأُهُما البراءة, أغْلب الّذين عرفُوهُ كانُوا لَا يَروهُ جمِيلًا! كانُوا يَرَوا أَنّهُ يُشّبه قطط الشَّارع, ولكنّي كُنتُ أرَهُ جميلًا بلُونُه الرّماديُّ المُموُه وعيناهُ العسليّتيْن الصغيرتين, اصلًا وهل يملكُ المرءُ أن يختار مستوى جمال أطْفاله مثلًا! كان وهو عُمرهُ أسابيع ينامُ في سريري تحت الغطاءِ, أَرتبط بِنَّا أنا وأختي كوّننا منْ مُحِبّي القطط أكْثر منْ باقي أَفراد البيت, انفصل عنّي قليلًا في بعض الفترات الّتي لم أكُنْ قَادِرَة بها عَلَى الاعتناء به جيّدًا, ولكنّهُ مُنذُ العام الماضي أو أكثر أصبح لصيقًا بي, كُنتُ أَحبُّ اشتداد البرد لأَنّهُ لا يجد مكانًا أَكثر دفئًّا في المنزل منْ سريري, لا ينامُ إِلّا معي ولا يستيقظُ إلّا عندما أنهضُ منْ فراشي ولا يلعبُ أو يأكُل إلّا إِذَا كُنتُ بجانبهُ, في اللّيلِ كان أحيانًا يُصدرُ صوتًا مثل الشّخير, خُصُوصًا في فترات التَّزاوُج كان يمُوءُ بشكلٍ مُزعجٍ طوال اللّيلِ, كُنت أَحيانًا أَشعُرُ بألم وأنا بيِّن الصحو والنَّومُ فأجدُّ نفْسي في صراعٍ, هل أخرجُهُ من الغُرفة حتَّى أستطيع أن أَنام؟ لكنَّهُ كان يدُورُ في الغرفة بطُولها وعرضها ويختبئ منِّي خلف السَّتائر حتَّى لَا أخرجهُ, فيضحكُني بحركاته هذه, فأَتراجع عن فكرة أَبعاده عنِّي فورًا.
دَائِمًا ما كُّنّا نقُول أنا وأختي أنهُ ينْسى تقريبًا كونُهُ قطّ ويُمارسُ سُلُوكيّات البشر, يتصرّفُ ويشعُرُ ويمُوءُ بلا توقُّفٍ وكأَنّهُ يحكي لِي قصةً, رغم أنّني قرأتُ أنّ القطط لا تمُوءُ هكذا إِلّا مع قطط مِثْلها, لِأنّها تعتقدُ أن البشر لنْ يفهمُوا السّبب وراء هذا المواء أو ذَاكَ, لِذلك هي لا تُتعب نفْسها بذلك, لكنْ سوكي كان قط مُخْتلف, يمُوءُ ليطْلُب كُلُّ شيْءٍ, وكُنْتُ أحْدثُهُ ليشْعُر أنّني أفهمُ ما يُريد, كان يقِف عند فتح الباب أو تحريك المفْتاح ليُنبّهني أنّهُ يرغبُ بالخُرُوج, أو أنّهُ مثلًا يُحِبّ تناول طّعامُه المُقرمشُ أو البيض المسلوق, كُنتُ أُدلّلُهُ وكأَنّهُ طِفلي الصغير, كان كلّ هذا يحدُثُ وسط استهْجان الكثيرين الّذين باعتقادي لا يعلمُون ولا يُقدّرُون بهجة أنْ يكوّنّ في منزلك حيوانٍ أليف يُحبك أو مُقرّبٍ مِنك!
تتأمّلُهُ وهو يلعب, تُراقب حكايات هُرُوبه القصير منْ المنْزل وهلع أنْ يُصيبهُ مكْرُوه, كُنت أتأمّل سعادتُهُ وهو يتكوم ويُلصقُ أنفهُ الرّطْب بالمدْفأة ويُحاولُ استدراج أيّ شيءٍ بكفّه الرّماديّ الصّغير,كانت مُشاهدتُه هكذا تُخرجُني منّي, كُنتُ أَدخُلُ في مُواجهات عديدَةٍ مع أمِّي عِندما تفحُ باب البيتِ وهو يجلسُ بقُربهُ, كانت تقول أَنتِ تُبالغين في حمايته, نعم, كُنتُ شرسةً في حمايتهِ هكذا كُنتُ أبقيهُ أَمام ناظري.
كُنتُ أعلمُ جيّدًا أَن أَعمار القطط قصيرة, ووُجُودهَا ذا أمدّ قصّير جدًّا مُقارنةً بنّا نحنُ البشر, ولكني كُنتُ أُبعد عنْ تفكيري شبح الاِنتهاء الّذي يُخيفُني دائمًا, كُنتُ أخبىء هذا الهاجس في صدري وأقول لِنفسيّ أنه أن كان القط يعيشُ حياةٍ صحّيّةٍ فيُمكنُني أنْ أَحفل بحياةٍ طويلةٍ معهُ, يُمكنُهُ أنْ يعيش معي للأبد.
عاش سوكي إسبُوعًا مأساويًا بِكُلّ المقاييس, وقُضِيتْ معهُ أوّل أَمْس ساعاتٌ بها الكثير منْ البُكاء والألم عليْه, والتّفكير في ماذا سيحُلُّ به؟ هلْ سيسْتعيدُ صحّتهُ في الغد؟ لا يُمكنُ أنْ ينتهي وُجُودُهُ هكذا فجأَةً, رُبّمَا يجدُ البعْضُ أنَّ هذا مُبالغة دراميَّة؟ ولكنّي لا أَسْتطيع مقاومة شُعُوري بحُزْني العميق لفقْده وانْتهاء حياته معي, ولمْ أبالغْ عنْدما أقُولُ أنّي لا أسْتطيع تصوُّر يوْمي بدُونهُ, قبلها بأيام ذهبْتُ للطَّبيب البيطريّ عنْدما اشْتدّتْ عليه علاماتُ الإرهاق وفقْد شهيتُهُ تمامًا, حتّى الماء ظلٌّ يوْمان لا يقتربُ منْهُ, أجْرى لهُ الطبيب بعْض الفُحُوصات الّتي أظهرتْ أنْ لديْهُ مُشكلة بالكبد وقال أنّهُ بِحُلُول الغد سيُصبحُ بخيرٍ مع هذه الأَدوية, ولكنَّهُ في صباح اليوْم التّالي ازْداد وضعُهُ سُوءٍ, فقال الطّبيب أنّهُ لديهُ مُشكلة أَيضًا في الجهاز التنفُّسي كنت أشعر أن هذه فعلتي وخطيئتي, كان إحساسي بعجزي يفُوقُ احتمالي وأنا أشاهدُهُ يلهثُ لإلتقاط أَنفاسهُ بصُعُوبةٍ ولم استطع فعل شيءٍ يُساعدُهُ, وقتُها شعرُت بغُصّةٍ كبيرةٍ بِصدري كُنتُ أعلمُ أنها النّهاية, فكّرتْ وقتُها آه لو أَمكنني أنْ أعيش بمُفردي حتّى لا تفجعني النّهاياتُ بفقدان الأعزّاء مِثلمَا كُنتُ صغيرة, لكُنتُ فعلتُ دُون تردُّدٍ, ولكنّي أعيشُ وفق قوانينِ الحياة الّتي خُلِقَتْ وخُلقّتّ لها دُون رغبةٍ فَاستسلمتُ لتلكَ القوانين, أمَّا في داخليّ هُناك جُزءًا كبيرًا منّي يتمنّى لو مُتُ قبل موت منّ أحبُّ, كمُحاولةٍ منّي لحلّ ألامّ الفقد المُميت.
لازلتُ كما كُنتُ في صغري لَم أَتجاوز عُقدة النّهايات, والتّجاوُزُ لَا يعني بالضرُورة النّجَاةُ رُبّما يكُونُ غرق منْ نوعٍ أخر نجهِّلُهُ, بشكلًا أَو بآخَرَ تتداخل البداياتُ والنّهاياتُ في كُلِّ يومٍ وكُلُّ لحظةٍ, يبدأُ أَمر لينتهيَ آخرُ, وينتهي أَمر لِيُفسح المجالَ لِآخر, لَا نستطيعُ بكُلِّ الأَحوال أَن نضمن ديمُومَةَ أَيّ شيءٍ, ولكنَّ لأنَّ كُلَّ شيءٍ دائم حتّى يُحدثُ ما يُؤكّدُ عدم ديمُومته, وبطبيعةٍ بشريَّةٍ مُتأَصِّلة فينَّا أنَّ ما ارتحتنا إليه تملَّكنّاهُ أو رُبّما تملُّكنا, تكُونُ النّهاياتُ حينَئذٍ ٍفجيعة فعليّة.