الأحد، 22 سبتمبر 2019

ليالي الخريف الحزينة



لقد مضى وقت طويل منذ أخر مرة راودتني فيها رغبة قوية بالكتابة، خلال الأشهر الماضية حرصتُ على تدوين بعض اليوميات، ولكني حينما عُدتُ وتخليتُ عن التدوين اليومي الورقي شعرت أنني فقدتُ شيئًا.

الشخص الأخر بداخلي يقول:
ألم تفتقدي شعور تدفق الكلمات من عقلك، ومُحاولة اصطفافها على الورق كأطفال في حماس أيامهم الأولى، قبل أن تتحول أيامهم إلى روتين، تتلاشى منها الأحلام وتحدّهُ الأعين والأذهان التي تقرأُها، قبل أن تختفي من مفرداتها ثورة الانطلاق في كل اتجاه، ويظل الخط المستقيم هو الهدف الوحيد.

ما الذي حدث لك الآن؟ كنتِ تكتبين كل ليلة. الأرق رفيق الليالي الطويلة، والحزن يتجدد كل لحظة تمامًا كالسعادة، والمشاعر لا تنضب والأفكار لا تنتهي، يمكنك إحياء فكرة قديمة، أي فكرة، فكرةً تمورُ شأنها كُلَ الأفكارِ في رأسك، فكرةً تُحدثُ جلبةً خفيفة بعد مورانها، هاهي قد جاءت، هذه الفكرة التي وثبت على سطح أفكارك فجأة، يمكنك التقاطها، يمكنها أن تنمو بسرعةٍ طفيلية لتُصبح قرارًا، يمكنك نسج قصةً منها، يمكنك حتي تكرار أحد أيامك، أفعلي ذلك، أكتبي أيّ شيء، أكتبي عن الأفلام، عن الموسيقى، عن الكتب، عن الأيام، عن درجات الحرارة، حتى يمكنك أن تكتبي عن ذرات الغبار التي تتراقص حول نافذتك الآن.
أُرددُ، حسنًا .. أشعرُ أنني عاجزة عن الكتابة، وكأن عضلات يدي تيبست إزاء الأوراق، لا بأس أقول. سأفتح جهازي اللوحي رُبما هذا يخفف من حالة التوتر الواقعة بيني وبين الأوراق مؤخرًا، عندما أفتح هذه الورقة الأفتراضية، أدرس في البداية كل الإحتمالات التي يمكنها أن تجعلني أخفق مجددًا، فأخفف إضاءة الجهاز، لكي يبدو هذا الضوء شديد البياض الذي يواجه نظري أكثر انسجامًا معي، تبدو الإضاءة الآن بيضاء مائلة لزرقةٍ خافتة، أزرق محاولًا أن يكون رماديًا ، أو رُبما أسود إذا ما قررتُ أن أتوقف عن الكتابة وأغلقت الجهاز هكذا دون تردد. رغم ذلك لا تؤتي بثمارها هذه الحيل، لا اسطتيع الكتابة، لا أجد قدرتي الكتابية الخاصة الآن سوى كتلة من الصلصال يابسة ومُشوهة، أحاول أن استجمع قواي، اجمع الأحرف ببطء متحجر وصعوبة بالغة، أقاوم كل الأشياء التي تسهم في عملية قتل الأفكار، أحاول أن أُعبّأ صدري بالعزيمة التي تمنحني أياها سطوة الكتابة، أتخيل الكلمات، الأحرف، العناوين ثم أتوقف.

كم أكره أن أكرر حديثي عن معضلتي الدائمة التي أعيشها لأجل الإلتزام بالكتابة، وأشعر في بعض الأحيان بالإحباط لأنني لا أجد مادة للكتابة سوى حياتي الواقعية الفقيرة، رُبما بسبب أن التفكير في حياتي يقودني لتشتتٍ أكبر وأعمق، ولكني أعزّي نفسي بتذكر النصيحة الأبدية لكل الكُتّاب:
اكُتب، اكُتب، اكُتب، اكتب ماتفيض به نفسك وحسب، المهم أن لا تجلس خالي الوفاض. نصيحة ذهبية لكل الكتّاب يمكنني أتباعُها، سأكتب دون أن أهتم للإملاء، ولا القواعد النحوية، ورأيي بنفسي فور الانتهاء والنظر للنص من بعيد، رُبما على الأغلب سأظلل النص كاملًا وأمحيه، أو ألقي به في اللامكان، ثم أغلق الصفحة.
سأحاول التدفق في الكتابة وحسب، حتى لو كان ما أكتب محض هُراء، أنه درسٌ وعيته جيدًا من قراءة سير الكُتّاب وأسلوب حياتهم، كافكا، ماركيز، بول أوستر، نجيب محفوظ والقائمة بلا نهاية.
إذن سيكون هذا النص فضفضة، حكي فارغ، أستجدي فيه حيلتي للعودة للكتابة، نصّاً محشورًا هكذا فقط، مجرد محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة ليس إلا.

أفكر .. هل لازالت النصوص الحزينة تؤلم كُتّابها حتى إن كانوا في قبورهم ؟
اردتُ أن ابدأ هذا النص بهذا التساؤل، كثُرت تساؤلاتي، ويشعرني هذا بالخجل عندما لا أجد من يجيب، فتتكاتف أحزاني أمامي لأبكيها دفعةًّ واحدة، لكنني لن أفعل الآن، سأكتفي بمعاتبتها فقط كما لو أنها احدى صغاري. يخطر لي أحيانًا أنني رُبما فقدتُ الإدراك بالواقع تمامًا ، هل يعني هذا أن فهمي وموقفي من الحياة يعاني من شوائب منعتني من إدراك حقيقة الأشياء؟
ولكن هناك أمر حقيقته مؤكدة، إدركتهُ هذه الليلة أكثر من أي وقت مضى، هو أنني مقيدة وعالقة، وحبيسة دائرة صغيرة تستمر في ضيقها عليّ، إدرك أن هذا اللون الأصفر الباهت الذي يقبض بظلاله على أيامي لن يرفع يده عني أبدًا، يجعل شعور الشفقة يطغى عليّ، أشفق على مجتمعي، على نفسي ، على الأطفال، على النساء، على الرجال، على البشر، أشفق على الجميع. فأجدني في أوقات كثيرة لا استطيع فعل شيء أكثر من مرور الوقت كيفما اتفق، لا أعرف كيف أقول ما أريد قوله، ولا كيف أكتب ما أريد كتابته، تأخذ أفكاري منحى مستمر في التوتر عندما أحاول شرح نفسي أو تبريرها.

أحيانًا تلمع في ذهني البداية-وهذه أهم النقاط للكتابة- ثم تبدأ الأفكار في التدفق ويبدأ معها الأسترسال، ولكنني أتورط دائمًا بالنهاية، كيف أُنهي ما كتبت؟ كلمات كثيره يفيض بها عقلي أكتبها في نوبات من الدموع أحيانًا ولحظات من السمو أحيانًا أخرى، كلمات طنانة، لها إيقاع موسيقي ومحبب كما يبدو في عالمنا الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي حقيقتي التي لا استطع الفرار منها، الحقيقة أيضًا كلمة فضفاضه، كلمة يتوخى الكثيرون استخدامها، رُبما لذلك التردد والهرب هو روح الحياة التي نعيشها، لكن ما ضرّ العالم لو كان لي حقيقة واحدة، حقيقة أنني مهمشة ومقصية، ويعاد تدويري كل يوم في أيام باهتة لا تقتصد في الدفع بي كل لحظة مسافة أقرب من العزلة؟
نعم أنا لدي تقدير كبير للعزلة، وإيمانًا خاصًا بها، ليس على سبيل التعفف من محاولات الآخرين في التباهي بجودة حياتهم الإجتماعية، بل لأنني دائمًا عندما أكون وسط حشدٍ دافئ من الناس لا أشاهد إلا نفسي، أشعر بأنني أعي بكل خلية صغيرة فيّ، كل خلية تنبض في ترسانة هذا الجسد الذي يحمل وجهاً شاحباً، وملامح مسحوقة. ما الذي يمكنني قوله عن هذا كله! وعندما يُعيدُني عقلي لهذا الحشد لا أرى فيهم أكثر مما أراه في نفسي، فلا أتخيل حالًا غير التعب والألم، الألم الذي لا ندرك حقيقته إلا عندما يبلغ بنا درجةً فاحشة يستحيل معها تجاهله.

أفكر فيما كتبت فأجد صوتي ينحسرُ ويتراجع ثم يموت، فيطويني هذا الصمت المطبق، وتؤذيني تلك الكلمات التي لا تجد طريقها للحديث، وتبدو بعدها كل الاستعارت ضعيفة لوصف هذا الشعور، كل المجازات قاصرة ولا تُموجُ سطح ماء، كل القصص لا تشبه أي شيء مما أردت قوله، كل المحاولات التي عبرت فيها عن غضبي وإحباطي لم تفضِ إلى شيء، لا على مستوى الحلم، ولا على مستوى الواقع.

تصيبني تلك الحالة بصداع ودوار عنيف في الرأس، وكأن الأرض ما عاد يغريها أن تدور حول نفسها، فصارت تدور حول رأسي بدلًا عن ذلك،حتى صداعي تشبه غرابته غرابتي تمامًا ،صداع يمتد من بينى الحاجبين وحتى جدار أنفي وصولًا إلي عيناي، فتبدأ بواخزت خفيفة تزداد حدتها لينبض الألم بهما، هنا تحديدًا في عظم وجهي، وكأن جمجتي قد أصبحت كتلة علي وشك الإنفجار .. ينبض الألم مع كُل نفس، مع كل إلتفاته وغمضة عين ، وكأن لا ينقصني إلا صداع لعين لتفتك الآلام بي، هذا النوع من الألم لايبرأ إلا بعدما أتناول أطنان من المسكنات وتنتهي النوبة بالبكاء، ولكن لابأس في ذلك، يمكنني التحامل على نفسي، فأنا خير من يعرف أن التعايش مع الألم ممكن .

أترك الكتابة جانباً وأمسك بهاتفي لأستمع إلى بعض الموسيقى، أشغل أول قائمة أغاني يلتقطها بصري، فأجدها "Across The Universe" ل " The Peatles" أنصت إليها بأنسجام شديد، وعندما يقول:
Nothing's gonna change my world
ينفرط كل شيء معها تقريبا. أتجاوز هذه اللحظة بقليل من التماسك والكبرياء، ولكنني أريد أن أتأكد من عدم شبحية ما أحسُ به، أعرف أنني في معظم الوقت في حالة سيالة من الجهل، فأوثقُ نفسي في تلك الأوقات بالكتابة، أو الموسيقى، أو قراءة الشعر. فأقرر أن أعطي فرصة أخرى للكتابة فأكتب هذا النص.

لا أريد أن أتوقّف عن الكتابة، أريد أن أوثق كل هذه الأحزان، هذا التشظي والشتات، نوعًا من التحنيط الرائع لرمادية أيامي، أريد أن أعود لقراءة ما كتبته لإدرك أن هذا تتطلب الكثير من التعاسة. أريد أن أعود للبحث عني بين السطور مُتسائلة هل كتبت هذه الجملة بلا شعور، أم كان يغمرني شعور مغاير عما كتبت، هل هنالك تفاصيل لم أرغب بالاشارة إليها؟ ماذا لو قيل لأمي أن أبنتك تكتب كلامًا غير مفهوم! هل عدم الفهم جريمة يجب عليّ التملص منها؟ أيفترض أن أكتب بوضوح، وبهدف نبيل، ومُفيد؟
أبحث عن مخرج طوارئ ينقذني من هذا التيه الذي يغزو أعماقي، وأخالني أعلم أن معاناتي باتت تكمن في إنني لا أكتفي بآداة واحدة لترجمتة هذه المعاناة، أريد أن أتعلم الرسم - رغم علمي أن رسمي سيء ولا أجيد قياس الأبعاد- لكني أريد أن أرسم، أقرأ، أكتب، أغنّي، أعزف الموسيقى، ألتقط الصور التي تلتقطها غالبًا عيني المجرّدة في كل مشهد، أريد حتى أن أتعلم الخياطة، لأصنع لنفسي ثوباً أزرق، الأزرق لونًا روحانيّ، أريده بالغ الزُرقة للحد الذي يشعرني أنني أرتدي كل محيطات الأرض، سأرتدي معه عقدًا عُلِّق به حجر الجشمت، أريد وأتمني لو أن الطقس مطيرٌ هذه الليلة، لكي يبدو هذا كله منسجمًا مع كأبتي.