الجمعة، 24 أغسطس 2018



كلما اقتربت من البشر أكثر عرفت أن هناك صيغًا مبتكرة وغير مألوفة للأذى، وأيقنت أن استحقاقنا للاحترام أكثر صعوبة ومشقة واهمية من منحه للبعض، وأن هكذا هم البشر تتبدل أهواءهم ووجوههم كما يتبدل الليل بالنهار، وكلما ابتعدت عنهم عرفت نفسي وأصبحت أكثر أتساقًا معها.

في عصر السوشيال ميديا لا أحد ينجو من مقصلة الاحكام والتشهير والتنمر والاتهام ،لا أحد يفلت من فخ (السكرين شوت) ومن ثم يقع فريسة ضعيفة لنفرّغ به كل أزماتنا الأخلاقية وعقدنا النفسية وكأننا نحن أصحاب النفوس السويّة ، الجميع يفعلها حتي وإن كانت بدرجات متفاوتة.
والبعض منا قد نجده مبدعًا في إحداث الأذى بالآخرين، لذا إذا كنت هشّ الروح ،حساس المشاعر ،فحريّاً بك أن تتوقف قليلاً ولا تتوغل في مستنقع البشاعة هذا ، لأن أول ما ستناله منه هو أن يذهب نقاء روحك .

الشهور القليلة الماضية التي قاطعت فيها كل السوشيال ميديا وابتعدت عن جو المزاحمة ومشاركة كل شيء تقريباً ،كانت بمثابة فترة أعادة تأهيل لتفكيري ،ولأنني لم أكن بوضع صحي ونفسي ولا حتي مزاجي يسمح لي بالردّ والشرح والتبرير وخوض نقاشات عقيمة ودخول جدالات لن تعود عليّ بشيء ،لأنني أيضًا لازلت أؤمن بالسكن الداخلي للإنسان ،فكان هذا التوقف ضرورة ملحة وكأنه إعلان لهدنة مؤقتة من العالم الافتراضي وحتي الواقعي ، حيث أنني شخص يمتلك دائرة معارف وصداقات محدودة  .

 لم يكن قرار الإنقطاع هذا بتخطيط مسبق مني ، ولا حتي بمعرفة ووعي لما سيؤول إليه ،ولكنه حدث بشكل تدريجي، رويدًا رويدًا شعرت أنني في عزلة شبه صحيّة ، ومن أجل ذلك، وبعد الابتعاد لأول يومان اتخذت قرار التوقف والامتناع عن أستخدام كل وسائل التواصل ،لعل هذا يلملم شتاتي ويعينني في استعادة ماتبقيَ من إنسانيتي المدهوسة تحت عجلات هذا العالم المتسارع المليء بالكراهية والظلم المبثوث في كل أرجاء الكوكب.

كُنت أشعر أن هاتفي قد أصبح امتداد ليدي ، أحمله معي أينما ذهبت ، أتركه الآن بغرفتي دون أن أشعر أنه فاتني شيء بالغ الأهمية ، وبالفعل كُنت قد فرضت قيودًا علي نفسي ووضعت حدّاً لاستخدامي لفيسبوك مُنذ عام تقريبًا، ولكن هذا لم يكن كافيًا ، فجاء دور باقي منصات التواصل الاجتماعي الآن بالتبعية، حتي أمتنعت عن استخدامها تمامًا بالشهور القليلة الماضية ، وعلي الرغم من أن للسوشيال ميديا جانب إيجابي لا يمكن أنكاره ولا يخفي عن أحدّ ،فقد أعطت للجميع مجالًا واسعاً للتعبير عن الذات من خلال طرح الافكار والأراء بحرية ،ويمكننا اعتبارها منصة للمقهورين يوصلون من خلالها أصواتهم للعالم ،كما أنها مساحة جيدة لتوسيع دائرة العلاقات ، وأيضًا قد خلقت بيئة أكثر ثراء في المحتوى المعلوماتي ،فضلاً عن إثرائها لمنظومة الإنسان الثقافية والفكرية والتوعوية، وهكذا، فمن الواضح أنها حققت فوائد لا تُحصى ولا يمكن تجاهلها في حياتنا.

ولكني الآن قد بتُ أكثر إيماناً أن الأثار النفسية لمواقع التواصل الاجتماعي أيضًا لا يمكن حصرها ، وإذا اعتبرنا فيسبوك- حيث أنه الشبكة الأوسع أنتشاراً والأضخم من حيث عدد الأفراد المستخدمين- يفوز بنصيب الأسد من هذا فلن نكون ظالمين ، فآثاره النفسية السلبية حدث ولا حرج ، وصلت إلى حدّ الاكتئاب الحاد والانتحار والتوتر المفرط والقلق وزيادة مشاكل النوم والثقة الزائدة الغير مستحقة وتشوّه رؤية الذات الحقيقية ، وحالات التحرش الالكتروني والتعدي اللفظي ، ناهيك عن حالة التوجس الدائم وعدم الرضا وشيوع الكراهية التي تسمم فضاء الإنسان ،وسلوكيات التنمر والسخرية والعنصرية والحط من قدر الأفكار والأشخاص... الخ ، وعلي هذا لا يمكننا الحصر ولا التحكم في الاثار النفسية والاجتماعية الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي .

جون بول سارتر لم يعاصر سنابشات ولا إنستغرام ولكنه وصفهما بدقة عندما قال
"لكي يصبح أتفه حدث مغامرة، فيجب ويكفي أن يأخذ المرء بـ"سرده" وهذا ما يخدع الناس". هذا ما فكرت به تمامًا عندما استخدمت سنابشات لأول مره ،فأنا بالأصل لم أكن استساغه ، ولكني فكرت باستخدامه بتوصية من صديق للتخلص من الملل ، فعُدت واغلقت حسابي بعد يوم واحد من تسجيل دخولي له ،أما إنستغرام فكان في بدايته تطبيق لطيف كونه يوثق اللحظات الجميلة عن طريق الصور، ولكنه غدا بالنسبة لي مكانًا لا يطاق ، أن أشاهد صوراً طوال الوقت للبشرية جمعاء في لحظات السفر والاستمتاع والاستجمام وحتي أوقات العمل والأحداث العادية والمكررة ، فهو -بالنسبة لي طبعًا- ضربًا من العبث، برأيي أن الصورة بالأساس هي مجرد إطار يحاكي هذه اللحظة فقط ، لحظة واحدة ، وليس كل الأوقات والنشاطات والأحداث العادية المكررة فقط لإظهار جانب واحد من حياتنا مشرق ومثالي حدّ الزيف ! قطعًا أنا هنا لا انتقد أي شخص يستخدم هذه التطبيقات بسلوكيات مغايرة لرأيي ،ولكنني أحاول إيضاح رؤيتي لها فقط.

ثم وبعد سنوات من ثورة الأنترنت أصبحت أري أن وسائل التواصل بشكل عام باتت أشبه بسعار استهلاكي وجنسي قبيح جداً ، سباق دائم خلف معايير جمالية واجتماعية خيالية يحلُم الجميع بالوصول إليها، صراع مستفحل لجذب انتباهي كمستهلك ،تفشت ظاهرة التسليع والترويج لأي شيء وكل شيء تقريباً ، موجة غير مسبوقة من الأسهاب الإعلاني الرخيص لتصنع معها جيلاً قادمًا يقود نفسه إلي الأنانية والسطحية أكثر مما يجري الآن.
 وصلت بي لدرجة أن أرسل شكر لأي حساب مخلتف وجمالي أو ثقافي أو فنّي بعيد عن أغبياء ومشاهير السوشيال ميديا   و"الفاشنيستا والفود بورن" وكل هؤلاء الذين لا أعرف ماهي علّتهم تحديداً .

 لقد تخلصت من أول فكرة كانت تطرأ ببالي حول أي شيء "كيف أشاركه؟"، كيف أصيغه في بوست أم تويت أم الأفضل أن أدونه بصوره بإنستغرام ، فكانت هذه الفكرة مزعجة بالنسبة لي وتأخذ من تفكيري بجوهر الشيء ومحاولتي لاستيعابه فكريًا و شعوريًا، أصبحت أكتب وأدون علي مفكرة هاتفي او في دفتر يوميات بشكل أطول وأكثر بساطة وراحة بعيداً عن هوس الأعجابات والتعليقات والمانشن والشير، وكل تلك الرموز التي علي اساسها يتم تحديد قيمتك في مجتمع السوشيال ميديا.
تخلصت من الحدود المقيدة للفكر وللشعور الي تفرضها علينا السوشيال ميديا، علي سبيل المثال حدود الأحرُف في توتير، وفي إنستغرام هناك عين الكاميرا والفلاتر والكابشن حتي أُلائم "المقاييس الخاصة" للتطبيق ، وأيضًا مراعاة من يقرأ كلامي وكيف تُفهم مقاصدي في المحيط الفيسبوكي  ، استبدلت فيسبوك وإنستغرام بقنوات يوتيوب وقوائم لأفلام وكتب وبودكاست ووثائقيات لا تنتهي ويمكنني أن أستمتع بها أكثر ،أفضل الدوائر الصغيرة الحميمية التي يمكنك السيطرة بها علي المحتوي الذي تشاهده او تشاركه ،لقد اصطفيت القناعة بالنفس علي هوس المشاركة الجماعية وكم الأعجابات وحبّ المديح وجو النفاق الاجتماعي .
لقد أستراح عقلي من السباق اليومي لمشاهدة كل الستوريز والتريندات السخيفة  وكل هذه الاشياء التي تظهر وتختفي لتُشعرك أن كل البشر أصبحوا نسخ سيئة ومكررة من بعضهم ، هدأت نفسي من كل الأشياء الي أراها ولا أستطيع الحصول عليها، استهلاكي للأشياء الزائدة قلّ كثيراً ، خف هوس التسوق ولم أعد أشتري إلا الأشياء التي أحتاجها فعلاً، أنعتقت من النموذج الذي أفرزته السوشيال ميديا للفتاة "الدلوعة الكيوت" و للمرأة "Strong independent woman" فتيات كثيرات ذوات عقول ناضجة كُنا نحسبهن ذوات مواقف إنسانية حقيقية ، ولكن الإيام أثبتت أنهن لسن أكثر من ساعيات للبروز الاجتماعي في محيط السوشيال ميديا، تجدها تستجد الشهرة لتكون محط اعجاب ولفت للأنظار فتسقط في وحل السخافة والدناءة في آن معًا ، تجدهن كاتبات وناقدات ومدونات في صورة فاشنيستا، كل ذلك من أجل أن يُشعرن أنهن أفضل من غيرهن وأجمل من غيرهن ومحط اهتمام  أكثر من الباقيات .
أعلم أنه ليس من شأني تحديد ما إن كان ما يقوم به غيري  سخيف أم عظيم ، وليس من واجبي الحكم إن كان هذا شيء مهم وأصيل أم سطحي ومزيف، ولكن كما ذكرت أعلاه ، جميعنا يمارس هذا بدرجات متفاوتة إن كان بوعي منا أو دون وعي ، هذه هي ثقافة الانطباعات والأحكام الظاهرية للسوشيال ميديا.
الجزء الأهم في هذا كله أن خصوصيتي بعد الابتعاد أصبحت بوضع أحسن كثيراً ، وهي لو تعلمون راحة بال منقطعة النظير.

‏ دان سلوبن لديه طرح يسمي (Thinking For Speaking)،وهي نمط مختلف من التفكير ندخله علي أفكارنا قبل أن نتحدث  بأي شيء ، كنوع من التهذيب والقولبة للأفكار ، وهو يتضمن تطويع كل أفكارنا بحيث أن  تتماشى مع القواعد والمفردات اللغوية المطروحة أو السائدة ،ووضعها بقوالب قابلة للفهم والتواصل  .

‏ومن هذا المنطلق فأنا أعتقد أن هناك نمط آخر للتفكير وهو
 (Thinking For Social Media)، وأعني بهذا أننا نحصر أفكارنا بقوالب فكرية محدودة ونصيغها بلغة محددة ،لغة قاصرة "وقابلة للانتشار " بشبكات التواصل الاجتماعي " اللغة السائدة" ، وأعتقد أن هذا شيء غير صحي لعقولنا وطريقة تواصلنا ببعضنا البعض ، كذلك أري أنه من واجبنا تجاه أنفسنا أن نكسر هذا النمط بين حين وآخر.

أخيراً نحن في العالم الافتراضي مجرد ظلال لشخصياتنا ، لسنا ذواتنا بصورتها الكاملة والحقيقية ،هناك عدة جوانب لنا محجوبة حتي عن انفسنا، وايضًا ممن المهم أن لا ندع هذا العالم الافتراضي يشكلنا بعد أن كنا نحن من شكلناها.

لقد غادرت السوشيال ميديا لهذه الأسباب ، ربما تكون مفهومة لدي البعض، وطفولية لدي البعض الآخر، وردة فعل مبالغ بها لدي الكثيرين،
ولكني لا أهتم بالرجوع إليها في الوقت الراهن.
هل سيتحسن العالم بهذه العزلة ؟ بالتأكيد لا
هل ستستمر هذه المقاطعة للأبد ؟ أيضًا لا ، ولكني أأمل أعود لها بسلوكيات مختلفة.



الخميس، 19 أبريل 2018

بعد منتصف الليل


وبينما ينشغل العالم في الخارج بالحروب والخدع والتطبيل والتهليل والهبل والسياسات الخرائية المبهمة، أنزلق أنا في حوض الأستحمام مثل أي ترس أنساني بائس في هذه المنظومة الكونية البالية، أتحدث إلي زجاجة الشامبو بصوت خفيض ومتقطع أشبه بحشرجات، وكأنني أبحث عن ملاذ،
أيها الشامبو لم أعد احتمل، لم يعد بأمكاني حصر أخطائي المتكررة أو تقيمها بدقة ومهارة كالسابق ..
ترد هي : لست طبيبك النفسي، أنا مجرد زجاحة شامبو أيتها الفتاة الدرامية الحمقاء.
أرد عليها بشكل تلقائي وطفولي : أرجوكي، يجب أن تحترمي البعد المأساوي لشخصيتي .
تقول  : حسناً .. ماذا بكي ؟
أقول  : لم أعد أحتمل تكاليف عاطفتي وأفكاري، ولا يمكنني التخلص من سطوتهما عليّ، دائماً ما أجدني أتبع الحد اللانهائي للمشاعر والأفكار، الحد المتطرف.
فترد قائلة : تعرفين جيداً كم هو مكلف أن تتطرفي.

أسترسل في حديثي عن تلك الأفكار لأقول لها : أخر مرة كنت أفكر فيها في الرب انتابني شعور غريب بالحزن والأسى تجاهه، كم هو كائن وحيد وأزلي في وحدته ولديه ليل لا ينتهي، قد شعرت أنني مثله، كأنني إله لديانة فانية، هجرها كل أتباعها وتركوا معابدها للصدأ ، شعرت أنني وحيدة مثل إله هذه الديانة، كان شعور مثقل بالوحشة، تلك الوحشة التي تنتابك وسط الجموع حينما تتضخم عيناك بالدموع، ولكن لا أحد يستطيع أن يلحظ ذلك.
أجد زجاجة الشامبو تتجاهل حديثي، فأكتفي بهذا القدر من هذا الحديث الجنوني كليًا وجزئيًا، كان يجب علي اصلاً أن لا أشارك أحداً هذه الأفكار وألا جعلت من نفسي أضحوكة. 
أخرج من الحمام ثم أرتدي ثوباً فضفاضًا ليمر الهواءمن خلاله، أن الذي يربت علي قلوبنا في لحظات من الوحده كهذه ليس سوى نسمات الهواء البارد، ربما تستطيع لمسته أن تخفف من وطأة كل هذا، أذهب لسريري بجانب النافذة أنني احرص على أن أبقي الستائر مفتوحة على هذه السماء الواسعة حتى الصباح، يمكنني الآن أن أزيل هذا الحاجز الكثيف من الضجيج الذي يحول بين روحي وسمعي، تلك الحاجز الذي يحرمني من الأستماع الى صوت العالم وإلى الأصغاء للطبيعة وحركة الأكوان، لصوت وخزات المطر وحتى إلى الأخر وإلى نفسي، يمكنني أن أسمع صوت الليل يصدر صفيراً حادًا يثير مشاعر الشجن بداخلي، إن هذا الوقت من الليل الذي يُسمح فيه للأرض بكل ما عليها بأن تكون متعبة، دون أن تضطر لأرتداء قناع وجه مزيف غير الآلم، يمكنني أن أسمع أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في أذني، لطالما أعتقد أنني يوماً ما سأجد طريقة سرية وخاصة لأرى بها الموسيقى وهي تسري بداخل الآلات، وربما وقتها فقط سأتخلى عن مشاهدة الأفلام، وعن القراءة، عن مخالطة البشر، وسأظل أتاملها حتى الموت.

أراقب تلك الأضواء الخافتة المنبعثة من النجوم في السماء، أراقب تلك الأجسام المضيئة وهي تذوب وتتلاشى من حولي ، أراقبها هكذا دون الرغبة في أن أسأل مثل أي إنسان آخر هل تبقى ليّ وقت لتصحيح كل هذا ؟
أيها القيد الخفيّ الذي يحول دون أن تغمض عيناي، هل هذا العالم حقيقي؟ هل هو واقعي؟ أنني أحس بواقعية كل الأشياء التي تمارس ثقلها عليّ في كل لحظة، ولكني لا أدري إن كان شيئًا من هذا حقيقيًا أم لا، يبدو ليّ أن هذا العالم وكأنه كابوس طويل مزعج، لا يمكن الاستفاقة منه، يبدو ليّ أن هذا الكون الفسيح المرئي والأكوان الآخرى التي لا يستطيع بعض البشر أدراكها، يبدو لي وكأنه مجرد حلم في إغفاءة قصيرة وهانئة للرب.
أيها القيد الخفيّ، ما هو الشيء الحقيقي في أن أتأمل كل هذه الألوان دون أن أمتلك لونًا خاصًا لي؟
ما اللون الذي ينبغي علي أختياره كي لا تقع عيناي في فخ التوهج واللمعان المفرط للأشياء البعيدة أو المزيفة ؟
وإلى أي مكان في هذا  الكون يمكن للإنسان أن يهرب إذا كانت كل الطرقات توصله إلى نفسه في النهاية، إلي أين وكل الأبواب مفتوحة في صدرك لتقفذك من جديد  إلى ذاتك فقط ؟

أنني مرهقة من التحديق في تلك النجوم التي لا تضيئ جيدًا  في هذه البقعة البائسة من الكون، متعبة من أرتداد هذا الظلام المتناهي في السماء إلي داخلي، متعبة من ذلك التداخل بين أعمدة الأنارة والتشتت الذي تبعثه في نفسي عبر عيناي، من كل هذه المحاولات المستميتة التي تبددها النجوم عبثًا حتى تصبح حقيقية  وذات معني أكثر، متعبة من البحث عن واحدة ليّ لا تنطفئ ولا تغير موقعها.
وأتمنى لو كان بأمكاني الرحيل لأنه لم يعد بأمكاني تفادي كل هذا الضياع.

الأربعاء، 24 يناير 2018

عن فظاعة مخاوفي

قبل أيام قرأت كتاب (قصص ضائعة ) لماركيز ،كتب هادئ وممتع في قراءته، وهو كتاب يضم مجموعة من المقالات يقترب بعضها من لغة السيرة الذاتية والمذكرات، ويغلب على مجملها الطابع القصصي، تتنوع بين الأدب والفلسفة والنقد وأمور شتى، وتتنوع أيضاً الشخصيات بين الأدباء والمخرجين والسياسيين والكتّاب، يستطرد فيها ماركيز في الحديث عن معاناة النساء في عيش الحياة المرسومة لهن مسبقاً في مقالاً بعنوان "الزوجات السعيدات ينتحرن في الساعة السادسة" ، وأيضاً يتحدث عن ميتافيزيقيا الدروب في مقالة "أشباح الدروب" ويسرد فيها تفاصيل قصة عجيبة لأمرأة تقف على جانب الطريق ثم تركب سيارة مجموعة من الأشخاص لتحذرهم من منعطف خطر على الطريق، وبعدها تختفي تماماً، وفي مقالة "العظماء الذين لم يكونوا كذلك أبداً"  يتحدث عن وجهة نظره في الأدباء الذين نالوا جائزة نوبل، وأرتباط هذه الجائزة بخرافه شائعة بين الأدباء متعلقة بموت من يحصل عليها ، كمؤشر  أو علامة لقرُب أجلُه.
أما أنا ففي كل مرة أدخل فيها من أحدي أبواب الكتب ثم أنتهي منه، لا أكون أنا ذاتها التي كنت من قبل، أنها هذه القدرة المخيفة للقراءة هلى صفعنا بتلك اليد الجافة. إن هذا النوع من الكتب التي لا تنتهي بعد الانتهاء من قرأتها، بل تقودك - رغماً عنك- لتبدأ بعدها رحلة سرية لا تتوقف خلف أسور عقولك مع غرابة أفكارك.

ومن بين كل هذه القصص الضائعة لماركيز فقد نجحت مقالة " أبهة الموت "  في أثارة مشاعر غضب وشفقة عميقة داخل نفسي نحو كامل جنسنا البشري، وتركت داخل عقلي المسكين ألف سؤال وسؤال يصارع كل منهما الآخر، وما كان هذا الصراع إلا بداية لطوافان جديد من الأسئلة والأفكار التي لا حصر لها.
وقد يكون ما أثار داخل نفسي هذا الفزع
هو أن تفاصيل هذه المقالة تحديداً -أبهة الموت- تقاطعت مع بعض المخاوف لدي، فأنا حقا ترعبني صيغة الجمع في مواجهة المفرد، المجموعات في مواجهة الفرد الواحد، المرضي في مواجهة الطبيب، التلاميذ في مواجهة الأستاذ، الحكام في مواجهة المواطن ... الخ

فكرة إلغاء الأنسان بكل ما يحويه من اتساع لأفكاره ومشاعره لتغليب ونصرة صفته الاعتبارية المؤقتة التي يمثلها "الآن" ليتعامل معنا من خلالها، إلغاء الإنسان لتغليب النمط أو القالب الذي وضع فيه ويمثله، عندها ينسى الطبيب أنه يواجه إنسان يتألم ليبقى بالنسبة له مجرد "حالة" ، ينسى الأستاذ أنه يتعامل مع طالب له ذاته الخاصة ويفكر بشكل فردي ، ويتذكر أن ما يواجهه هي مجرد أجساد تجلس علي المقاعد، وبطبيعة الحال الفكرة نفسها تتكرر مع باقي الأدوار في الحياة.
يتحدث ماركيز في هذه المقالة عن جمود الروتين اللعين، والمأساة التي تخلقها البيروقراطية ويتناول هذا من خلال وكالة لدفن الموتى، يصل بها الامر إلى أنها تسوق للموت بنشرات دعائية أقرب ما يكون إلى الرحلات السياحية، وبفعل التعامل اليومي مع الأموات تُخلق حالة من الاعتياد يفقد فيها الموت هيبته وجلاله وتجعل الموظفين في الوكالة المذكورة - تُجار الموت كما أسماهم ماركيز -تتعامل مع الموتى وذويهم بطريقة مجرده من الرحمة، طريقة آلية باهتة خالية من آية مشاعر أنسانية.
يحكي ماركيز أنه ذهب ليشهد مراسم حرق جثة لصديقه، فيجد التوابيت التي أشتراها عائلات الموتى لتضم جثامين أحبائهم قد أصبحت بلا فائدة فبعد انتهاء مراسم الدفن، تقرر الوكالة بيعها من جديد لعائلات موتى مستقبلين.
يصاب ماركيز بالذهول من طابور الانتظار الطويل للجثث التي ستحرق وذويهم، وبعد الانتظار لساعات يقترح  عليه احد الأشخاص أن يذهب هو ومرافقوه، ثم يعودوا في اليوم التالي مبكرين ليكونوا أول من يصل حتى يتمكنوا من أتمام مراسم الحرق، والموظف الوحيد في هذه الوكالة يفسر هذا الأمر بلهجة خبازين الأفران فيقول لهم  "الفرن مشغول، والفران وهو في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات" !
ثم يختم ماركيز مقالته بقصة تحمل الكثير  من البشاعة بين سطورها، قصة عن أمرأة من الطبقة المتوسطة، باعت كل ما تملكه ليحظى زوجها بجنازة أكثر رقي وأبهة من إمكاناتها الطبيعية، وقد كانت كل الترتيبات تبدو جاهزة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد تجار الموت في وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مذكور في العقد، وهذا يعني أن عليها دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن، فتخبره المرأة أنها انفقت كل شيء معها ولم يبقى لديها ولا قرش، فيقترح عليها الموظف حلًا بصوته الهادئ ويقول " أرجو منك  أن تمنحينا تفويضا لنشر قدمي الجثة."
وبالطبع لن تقبل بهذا الحل المرعب، وما كان عليها إلا أن تجد المال بطريقتها ليدفن زوجها كاملًا.
ومن أكثر الأسئلة والمخاوف رعبً هو هذا الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني.
إلي إي مدي يمكن لإنسانيتنا أن تصمد في مواجهة الروتين والبيروقراطية وبشاعة سُبل العيش ؟
أو بالأصح هل مازالت إنسانيتنا موجودة أصلًا أم سحقت تحت وطأة مأسي جنسنا البشري ؟
 هل مازالت صامدة كاملة أم أن أجزاءً منها قد تم استئصالها لتلائم المقاسات المحدد لبشاعة الوجود ؟