قبل أيام قرأت كتاب (قصص ضائعة ) لماركيز ،كتب هادئ وممتع في قراءته، وهو كتاب يضم مجموعة من المقالات يقترب بعضها من لغة السيرة الذاتية والمذكرات، ويغلب على مجملها الطابع القصصي، تتنوع بين الأدب والفلسفة والنقد وأمور شتى، وتتنوع أيضاً الشخصيات بين الأدباء والمخرجين والسياسيين والكتّاب، يستطرد فيها ماركيز في الحديث عن معاناة النساء في عيش الحياة المرسومة لهن مسبقاً في مقالاً بعنوان "الزوجات السعيدات ينتحرن في الساعة السادسة" ، وأيضاً يتحدث عن ميتافيزيقيا الدروب في مقالة "أشباح الدروب" ويسرد فيها تفاصيل قصة عجيبة لأمرأة تقف على جانب الطريق ثم تركب سيارة مجموعة من الأشخاص لتحذرهم من منعطف خطر على الطريق، وبعدها تختفي تماماً، وفي مقالة "العظماء الذين لم يكونوا كذلك أبداً" يتحدث عن وجهة نظره في الأدباء الذين نالوا جائزة نوبل، وأرتباط هذه الجائزة بخرافه شائعة بين الأدباء متعلقة بموت من يحصل عليها ، كمؤشر أو علامة لقرُب أجلُه.
أما أنا ففي كل مرة أدخل فيها من أحدي أبواب الكتب ثم أنتهي منه، لا أكون أنا ذاتها التي كنت من قبل، أنها هذه القدرة المخيفة للقراءة هلى صفعنا بتلك اليد الجافة. إن هذا النوع من الكتب التي لا تنتهي بعد الانتهاء من قرأتها، بل تقودك - رغماً عنك- لتبدأ بعدها رحلة سرية لا تتوقف خلف أسور عقولك مع غرابة أفكارك.
ومن بين كل هذه القصص الضائعة لماركيز فقد نجحت مقالة " أبهة الموت " في أثارة مشاعر غضب وشفقة عميقة داخل نفسي نحو كامل جنسنا البشري، وتركت داخل عقلي المسكين ألف سؤال وسؤال يصارع كل منهما الآخر، وما كان هذا الصراع إلا بداية لطوافان جديد من الأسئلة والأفكار التي لا حصر لها.
وقد يكون ما أثار داخل نفسي هذا الفزع
هو أن تفاصيل هذه المقالة تحديداً -أبهة الموت- تقاطعت مع بعض المخاوف لدي، فأنا حقا ترعبني صيغة الجمع في مواجهة المفرد، المجموعات في مواجهة الفرد الواحد، المرضي في مواجهة الطبيب، التلاميذ في مواجهة الأستاذ، الحكام في مواجهة المواطن ... الخ
فكرة إلغاء الأنسان بكل ما يحويه من اتساع لأفكاره ومشاعره لتغليب ونصرة صفته الاعتبارية المؤقتة التي يمثلها "الآن" ليتعامل معنا من خلالها، إلغاء الإنسان لتغليب النمط أو القالب الذي وضع فيه ويمثله، عندها ينسى الطبيب أنه يواجه إنسان يتألم ليبقى بالنسبة له مجرد "حالة" ، ينسى الأستاذ أنه يتعامل مع طالب له ذاته الخاصة ويفكر بشكل فردي ، ويتذكر أن ما يواجهه هي مجرد أجساد تجلس علي المقاعد، وبطبيعة الحال الفكرة نفسها تتكرر مع باقي الأدوار في الحياة.
يتحدث ماركيز في هذه المقالة عن جمود الروتين اللعين، والمأساة التي تخلقها البيروقراطية ويتناول هذا من خلال وكالة لدفن الموتى، يصل بها الامر إلى أنها تسوق للموت بنشرات دعائية أقرب ما يكون إلى الرحلات السياحية، وبفعل التعامل اليومي مع الأموات تُخلق حالة من الاعتياد يفقد فيها الموت هيبته وجلاله وتجعل الموظفين في الوكالة المذكورة - تُجار الموت كما أسماهم ماركيز -تتعامل مع الموتى وذويهم بطريقة مجرده من الرحمة، طريقة آلية باهتة خالية من آية مشاعر أنسانية.
يحكي ماركيز أنه ذهب ليشهد مراسم حرق جثة لصديقه، فيجد التوابيت التي أشتراها عائلات الموتى لتضم جثامين أحبائهم قد أصبحت بلا فائدة فبعد انتهاء مراسم الدفن، تقرر الوكالة بيعها من جديد لعائلات موتى مستقبلين.
يصاب ماركيز بالذهول من طابور الانتظار الطويل للجثث التي ستحرق وذويهم، وبعد الانتظار لساعات يقترح عليه احد الأشخاص أن يذهب هو ومرافقوه، ثم يعودوا في اليوم التالي مبكرين ليكونوا أول من يصل حتى يتمكنوا من أتمام مراسم الحرق، والموظف الوحيد في هذه الوكالة يفسر هذا الأمر بلهجة خبازين الأفران فيقول لهم "الفرن مشغول، والفران وهو في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات" !
ثم يختم ماركيز مقالته بقصة تحمل الكثير من البشاعة بين سطورها، قصة عن أمرأة من الطبقة المتوسطة، باعت كل ما تملكه ليحظى زوجها بجنازة أكثر رقي وأبهة من إمكاناتها الطبيعية، وقد كانت كل الترتيبات تبدو جاهزة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد تجار الموت في وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مذكور في العقد، وهذا يعني أن عليها دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن، فتخبره المرأة أنها انفقت كل شيء معها ولم يبقى لديها ولا قرش، فيقترح عليها الموظف حلًا بصوته الهادئ ويقول " أرجو منك أن تمنحينا تفويضا لنشر قدمي الجثة."
وبالطبع لن تقبل بهذا الحل المرعب، وما كان عليها إلا أن تجد المال بطريقتها ليدفن زوجها كاملًا.
ومن أكثر الأسئلة والمخاوف رعبً هو هذا الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني.
إلي إي مدي يمكن لإنسانيتنا أن تصمد في مواجهة الروتين والبيروقراطية وبشاعة سُبل العيش ؟
أو بالأصح هل مازالت إنسانيتنا موجودة أصلًا أم سحقت تحت وطأة مأسي جنسنا البشري ؟
هل مازالت صامدة كاملة أم أن أجزاءً منها قد تم استئصالها لتلائم المقاسات المحدد لبشاعة الوجود ؟
أما أنا ففي كل مرة أدخل فيها من أحدي أبواب الكتب ثم أنتهي منه، لا أكون أنا ذاتها التي كنت من قبل، أنها هذه القدرة المخيفة للقراءة هلى صفعنا بتلك اليد الجافة. إن هذا النوع من الكتب التي لا تنتهي بعد الانتهاء من قرأتها، بل تقودك - رغماً عنك- لتبدأ بعدها رحلة سرية لا تتوقف خلف أسور عقولك مع غرابة أفكارك.
ومن بين كل هذه القصص الضائعة لماركيز فقد نجحت مقالة " أبهة الموت " في أثارة مشاعر غضب وشفقة عميقة داخل نفسي نحو كامل جنسنا البشري، وتركت داخل عقلي المسكين ألف سؤال وسؤال يصارع كل منهما الآخر، وما كان هذا الصراع إلا بداية لطوافان جديد من الأسئلة والأفكار التي لا حصر لها.
وقد يكون ما أثار داخل نفسي هذا الفزع
هو أن تفاصيل هذه المقالة تحديداً -أبهة الموت- تقاطعت مع بعض المخاوف لدي، فأنا حقا ترعبني صيغة الجمع في مواجهة المفرد، المجموعات في مواجهة الفرد الواحد، المرضي في مواجهة الطبيب، التلاميذ في مواجهة الأستاذ، الحكام في مواجهة المواطن ... الخ
فكرة إلغاء الأنسان بكل ما يحويه من اتساع لأفكاره ومشاعره لتغليب ونصرة صفته الاعتبارية المؤقتة التي يمثلها "الآن" ليتعامل معنا من خلالها، إلغاء الإنسان لتغليب النمط أو القالب الذي وضع فيه ويمثله، عندها ينسى الطبيب أنه يواجه إنسان يتألم ليبقى بالنسبة له مجرد "حالة" ، ينسى الأستاذ أنه يتعامل مع طالب له ذاته الخاصة ويفكر بشكل فردي ، ويتذكر أن ما يواجهه هي مجرد أجساد تجلس علي المقاعد، وبطبيعة الحال الفكرة نفسها تتكرر مع باقي الأدوار في الحياة.
يتحدث ماركيز في هذه المقالة عن جمود الروتين اللعين، والمأساة التي تخلقها البيروقراطية ويتناول هذا من خلال وكالة لدفن الموتى، يصل بها الامر إلى أنها تسوق للموت بنشرات دعائية أقرب ما يكون إلى الرحلات السياحية، وبفعل التعامل اليومي مع الأموات تُخلق حالة من الاعتياد يفقد فيها الموت هيبته وجلاله وتجعل الموظفين في الوكالة المذكورة - تُجار الموت كما أسماهم ماركيز -تتعامل مع الموتى وذويهم بطريقة مجرده من الرحمة، طريقة آلية باهتة خالية من آية مشاعر أنسانية.
يحكي ماركيز أنه ذهب ليشهد مراسم حرق جثة لصديقه، فيجد التوابيت التي أشتراها عائلات الموتى لتضم جثامين أحبائهم قد أصبحت بلا فائدة فبعد انتهاء مراسم الدفن، تقرر الوكالة بيعها من جديد لعائلات موتى مستقبلين.
يصاب ماركيز بالذهول من طابور الانتظار الطويل للجثث التي ستحرق وذويهم، وبعد الانتظار لساعات يقترح عليه احد الأشخاص أن يذهب هو ومرافقوه، ثم يعودوا في اليوم التالي مبكرين ليكونوا أول من يصل حتى يتمكنوا من أتمام مراسم الحرق، والموظف الوحيد في هذه الوكالة يفسر هذا الأمر بلهجة خبازين الأفران فيقول لهم "الفرن مشغول، والفران وهو في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات" !
ثم يختم ماركيز مقالته بقصة تحمل الكثير من البشاعة بين سطورها، قصة عن أمرأة من الطبقة المتوسطة، باعت كل ما تملكه ليحظى زوجها بجنازة أكثر رقي وأبهة من إمكاناتها الطبيعية، وقد كانت كل الترتيبات تبدو جاهزة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد تجار الموت في وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مذكور في العقد، وهذا يعني أن عليها دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن، فتخبره المرأة أنها انفقت كل شيء معها ولم يبقى لديها ولا قرش، فيقترح عليها الموظف حلًا بصوته الهادئ ويقول " أرجو منك أن تمنحينا تفويضا لنشر قدمي الجثة."
وبالطبع لن تقبل بهذا الحل المرعب، وما كان عليها إلا أن تجد المال بطريقتها ليدفن زوجها كاملًا.
ومن أكثر الأسئلة والمخاوف رعبً هو هذا الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني.
إلي إي مدي يمكن لإنسانيتنا أن تصمد في مواجهة الروتين والبيروقراطية وبشاعة سُبل العيش ؟
أو بالأصح هل مازالت إنسانيتنا موجودة أصلًا أم سحقت تحت وطأة مأسي جنسنا البشري ؟
هل مازالت صامدة كاملة أم أن أجزاءً منها قد تم استئصالها لتلائم المقاسات المحدد لبشاعة الوجود ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق