الأحد، 22 سبتمبر 2019

ليالي الخريف الحزينة



لقد مضى وقت طويل منذ أخر مرة راودتني فيها رغبة قوية بالكتابة، خلال الأشهر الماضية حرصتُ على تدوين بعض اليوميات، ولكني حينما عُدتُ وتخليتُ عن التدوين اليومي الورقي شعرت أنني فقدتُ شيئًا.

الشخص الأخر بداخلي يقول:
ألم تفتقدي شعور تدفق الكلمات من عقلك، ومُحاولة اصطفافها على الورق كأطفال في حماس أيامهم الأولى، قبل أن تتحول أيامهم إلى روتين، تتلاشى منها الأحلام وتحدّهُ الأعين والأذهان التي تقرأُها، قبل أن تختفي من مفرداتها ثورة الانطلاق في كل اتجاه، ويظل الخط المستقيم هو الهدف الوحيد.

ما الذي حدث لك الآن؟ كنتِ تكتبين كل ليلة. الأرق رفيق الليالي الطويلة، والحزن يتجدد كل لحظة تمامًا كالسعادة، والمشاعر لا تنضب والأفكار لا تنتهي، يمكنك إحياء فكرة قديمة، أي فكرة، فكرةً تمورُ شأنها كُلَ الأفكارِ في رأسك، فكرةً تُحدثُ جلبةً خفيفة بعد مورانها، هاهي قد جاءت، هذه الفكرة التي وثبت على سطح أفكارك فجأة، يمكنك التقاطها، يمكنها أن تنمو بسرعةٍ طفيلية لتُصبح قرارًا، يمكنك نسج قصةً منها، يمكنك حتي تكرار أحد أيامك، أفعلي ذلك، أكتبي أيّ شيء، أكتبي عن الأفلام، عن الموسيقى، عن الكتب، عن الأيام، عن درجات الحرارة، حتى يمكنك أن تكتبي عن ذرات الغبار التي تتراقص حول نافذتك الآن.
أُرددُ، حسنًا .. أشعرُ أنني عاجزة عن الكتابة، وكأن عضلات يدي تيبست إزاء الأوراق، لا بأس أقول. سأفتح جهازي اللوحي رُبما هذا يخفف من حالة التوتر الواقعة بيني وبين الأوراق مؤخرًا، عندما أفتح هذه الورقة الأفتراضية، أدرس في البداية كل الإحتمالات التي يمكنها أن تجعلني أخفق مجددًا، فأخفف إضاءة الجهاز، لكي يبدو هذا الضوء شديد البياض الذي يواجه نظري أكثر انسجامًا معي، تبدو الإضاءة الآن بيضاء مائلة لزرقةٍ خافتة، أزرق محاولًا أن يكون رماديًا ، أو رُبما أسود إذا ما قررتُ أن أتوقف عن الكتابة وأغلقت الجهاز هكذا دون تردد. رغم ذلك لا تؤتي بثمارها هذه الحيل، لا اسطتيع الكتابة، لا أجد قدرتي الكتابية الخاصة الآن سوى كتلة من الصلصال يابسة ومُشوهة، أحاول أن استجمع قواي، اجمع الأحرف ببطء متحجر وصعوبة بالغة، أقاوم كل الأشياء التي تسهم في عملية قتل الأفكار، أحاول أن أُعبّأ صدري بالعزيمة التي تمنحني أياها سطوة الكتابة، أتخيل الكلمات، الأحرف، العناوين ثم أتوقف.

كم أكره أن أكرر حديثي عن معضلتي الدائمة التي أعيشها لأجل الإلتزام بالكتابة، وأشعر في بعض الأحيان بالإحباط لأنني لا أجد مادة للكتابة سوى حياتي الواقعية الفقيرة، رُبما بسبب أن التفكير في حياتي يقودني لتشتتٍ أكبر وأعمق، ولكني أعزّي نفسي بتذكر النصيحة الأبدية لكل الكُتّاب:
اكُتب، اكُتب، اكُتب، اكتب ماتفيض به نفسك وحسب، المهم أن لا تجلس خالي الوفاض. نصيحة ذهبية لكل الكتّاب يمكنني أتباعُها، سأكتب دون أن أهتم للإملاء، ولا القواعد النحوية، ورأيي بنفسي فور الانتهاء والنظر للنص من بعيد، رُبما على الأغلب سأظلل النص كاملًا وأمحيه، أو ألقي به في اللامكان، ثم أغلق الصفحة.
سأحاول التدفق في الكتابة وحسب، حتى لو كان ما أكتب محض هُراء، أنه درسٌ وعيته جيدًا من قراءة سير الكُتّاب وأسلوب حياتهم، كافكا، ماركيز، بول أوستر، نجيب محفوظ والقائمة بلا نهاية.
إذن سيكون هذا النص فضفضة، حكي فارغ، أستجدي فيه حيلتي للعودة للكتابة، نصّاً محشورًا هكذا فقط، مجرد محاولة مني لنفض غبار رأسي واستئناف الكتابة ليس إلا.

أفكر .. هل لازالت النصوص الحزينة تؤلم كُتّابها حتى إن كانوا في قبورهم ؟
اردتُ أن ابدأ هذا النص بهذا التساؤل، كثُرت تساؤلاتي، ويشعرني هذا بالخجل عندما لا أجد من يجيب، فتتكاتف أحزاني أمامي لأبكيها دفعةًّ واحدة، لكنني لن أفعل الآن، سأكتفي بمعاتبتها فقط كما لو أنها احدى صغاري. يخطر لي أحيانًا أنني رُبما فقدتُ الإدراك بالواقع تمامًا ، هل يعني هذا أن فهمي وموقفي من الحياة يعاني من شوائب منعتني من إدراك حقيقة الأشياء؟
ولكن هناك أمر حقيقته مؤكدة، إدركتهُ هذه الليلة أكثر من أي وقت مضى، هو أنني مقيدة وعالقة، وحبيسة دائرة صغيرة تستمر في ضيقها عليّ، إدرك أن هذا اللون الأصفر الباهت الذي يقبض بظلاله على أيامي لن يرفع يده عني أبدًا، يجعل شعور الشفقة يطغى عليّ، أشفق على مجتمعي، على نفسي ، على الأطفال، على النساء، على الرجال، على البشر، أشفق على الجميع. فأجدني في أوقات كثيرة لا استطيع فعل شيء أكثر من مرور الوقت كيفما اتفق، لا أعرف كيف أقول ما أريد قوله، ولا كيف أكتب ما أريد كتابته، تأخذ أفكاري منحى مستمر في التوتر عندما أحاول شرح نفسي أو تبريرها.

أحيانًا تلمع في ذهني البداية-وهذه أهم النقاط للكتابة- ثم تبدأ الأفكار في التدفق ويبدأ معها الأسترسال، ولكنني أتورط دائمًا بالنهاية، كيف أُنهي ما كتبت؟ كلمات كثيره يفيض بها عقلي أكتبها في نوبات من الدموع أحيانًا ولحظات من السمو أحيانًا أخرى، كلمات طنانة، لها إيقاع موسيقي ومحبب كما يبدو في عالمنا الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي حقيقتي التي لا استطع الفرار منها، الحقيقة أيضًا كلمة فضفاضه، كلمة يتوخى الكثيرون استخدامها، رُبما لذلك التردد والهرب هو روح الحياة التي نعيشها، لكن ما ضرّ العالم لو كان لي حقيقة واحدة، حقيقة أنني مهمشة ومقصية، ويعاد تدويري كل يوم في أيام باهتة لا تقتصد في الدفع بي كل لحظة مسافة أقرب من العزلة؟
نعم أنا لدي تقدير كبير للعزلة، وإيمانًا خاصًا بها، ليس على سبيل التعفف من محاولات الآخرين في التباهي بجودة حياتهم الإجتماعية، بل لأنني دائمًا عندما أكون وسط حشدٍ دافئ من الناس لا أشاهد إلا نفسي، أشعر بأنني أعي بكل خلية صغيرة فيّ، كل خلية تنبض في ترسانة هذا الجسد الذي يحمل وجهاً شاحباً، وملامح مسحوقة. ما الذي يمكنني قوله عن هذا كله! وعندما يُعيدُني عقلي لهذا الحشد لا أرى فيهم أكثر مما أراه في نفسي، فلا أتخيل حالًا غير التعب والألم، الألم الذي لا ندرك حقيقته إلا عندما يبلغ بنا درجةً فاحشة يستحيل معها تجاهله.

أفكر فيما كتبت فأجد صوتي ينحسرُ ويتراجع ثم يموت، فيطويني هذا الصمت المطبق، وتؤذيني تلك الكلمات التي لا تجد طريقها للحديث، وتبدو بعدها كل الاستعارت ضعيفة لوصف هذا الشعور، كل المجازات قاصرة ولا تُموجُ سطح ماء، كل القصص لا تشبه أي شيء مما أردت قوله، كل المحاولات التي عبرت فيها عن غضبي وإحباطي لم تفضِ إلى شيء، لا على مستوى الحلم، ولا على مستوى الواقع.

تصيبني تلك الحالة بصداع ودوار عنيف في الرأس، وكأن الأرض ما عاد يغريها أن تدور حول نفسها، فصارت تدور حول رأسي بدلًا عن ذلك،حتى صداعي تشبه غرابته غرابتي تمامًا ،صداع يمتد من بينى الحاجبين وحتى جدار أنفي وصولًا إلي عيناي، فتبدأ بواخزت خفيفة تزداد حدتها لينبض الألم بهما، هنا تحديدًا في عظم وجهي، وكأن جمجتي قد أصبحت كتلة علي وشك الإنفجار .. ينبض الألم مع كُل نفس، مع كل إلتفاته وغمضة عين ، وكأن لا ينقصني إلا صداع لعين لتفتك الآلام بي، هذا النوع من الألم لايبرأ إلا بعدما أتناول أطنان من المسكنات وتنتهي النوبة بالبكاء، ولكن لابأس في ذلك، يمكنني التحامل على نفسي، فأنا خير من يعرف أن التعايش مع الألم ممكن .

أترك الكتابة جانباً وأمسك بهاتفي لأستمع إلى بعض الموسيقى، أشغل أول قائمة أغاني يلتقطها بصري، فأجدها "Across The Universe" ل " The Peatles" أنصت إليها بأنسجام شديد، وعندما يقول:
Nothing's gonna change my world
ينفرط كل شيء معها تقريبا. أتجاوز هذه اللحظة بقليل من التماسك والكبرياء، ولكنني أريد أن أتأكد من عدم شبحية ما أحسُ به، أعرف أنني في معظم الوقت في حالة سيالة من الجهل، فأوثقُ نفسي في تلك الأوقات بالكتابة، أو الموسيقى، أو قراءة الشعر. فأقرر أن أعطي فرصة أخرى للكتابة فأكتب هذا النص.

لا أريد أن أتوقّف عن الكتابة، أريد أن أوثق كل هذه الأحزان، هذا التشظي والشتات، نوعًا من التحنيط الرائع لرمادية أيامي، أريد أن أعود لقراءة ما كتبته لإدرك أن هذا تتطلب الكثير من التعاسة. أريد أن أعود للبحث عني بين السطور مُتسائلة هل كتبت هذه الجملة بلا شعور، أم كان يغمرني شعور مغاير عما كتبت، هل هنالك تفاصيل لم أرغب بالاشارة إليها؟ ماذا لو قيل لأمي أن أبنتك تكتب كلامًا غير مفهوم! هل عدم الفهم جريمة يجب عليّ التملص منها؟ أيفترض أن أكتب بوضوح، وبهدف نبيل، ومُفيد؟
أبحث عن مخرج طوارئ ينقذني من هذا التيه الذي يغزو أعماقي، وأخالني أعلم أن معاناتي باتت تكمن في إنني لا أكتفي بآداة واحدة لترجمتة هذه المعاناة، أريد أن أتعلم الرسم - رغم علمي أن رسمي سيء ولا أجيد قياس الأبعاد- لكني أريد أن أرسم، أقرأ، أكتب، أغنّي، أعزف الموسيقى، ألتقط الصور التي تلتقطها غالبًا عيني المجرّدة في كل مشهد، أريد حتى أن أتعلم الخياطة، لأصنع لنفسي ثوباً أزرق، الأزرق لونًا روحانيّ، أريده بالغ الزُرقة للحد الذي يشعرني أنني أرتدي كل محيطات الأرض، سأرتدي معه عقدًا عُلِّق به حجر الجشمت، أريد وأتمني لو أن الطقس مطيرٌ هذه الليلة، لكي يبدو هذا كله منسجمًا مع كأبتي.

الثلاثاء، 30 أبريل 2019

أنهُ الخوف من النّهايات


أكْثر ما كُنتُ أخشاهُ وأنا صغيرة أنْ تنتهي الأشْياءُ, أجازات الصّيف الّتي نُقضيها على الشُطّان, الحكايات الّتي تحْكيها لنّا أُمّي قبل النّوم, عُلْبةُ الحلْوى المُخبّأة في خزانة مطبخها, مُشاركتُها في أَعداد وجباتي المُفضّلة كالمكرُونة وقالب الكَيك بالشُّوكُولَا, حتّى وإِنْ كُنتُ لَا أشاركُهَا فعليًّا كان يكْفيني الجُلُوسُ معها في المطبخ وهي تُثرثرُ حول كيفيفة أعدادُ الطّبق, أُراقبُ يدها وهي تُنثُّرُ ذرّاتِ الدّقيق في الهواء بخفّةٍ وتباهي حتّى تَضحكُنِي, أنهُ ذَاكَ الخوفُ الطُّفُوليّ منْ أَنْ تنْتهي أوْقات المَرح, أخاف مِنْ أنْ ينْتهي ما أَمْلك حتّى لو كان قالبُ شُّوكُولَا مثلًا, كُنْتُ أدَعُهَ فِي يدي, وأتأَمّل أخُوّتي وهُم يأكُلُون ثُمّ أذْهب وأَحْتفظُ بقِطْعتي في درج مكْتبيّ حتّى وأنْ فسدت لا يُهِمّ ولكنّها ستظلُّ بحوزتي, لا أُرِيدُها أنْ تنْتهي.
لمْ أكُنْ أَفْضل مُشاهدة أَفْلام الكرْتُون عَلَى التّلْفَاز, أما أفْلام الكرْتُون الّتي كُنّا نُشاهدُها عَلَى أَشْرطة الفيديو كانت الأقربُ لي, ذلكَ لأنّني استطيع إعادة مُشاهدتها متى أردتُ ولا أخافُ منْ أنْ تنْتهي فبإِمْكاني أنْ أُعيدها آلاف المرّات بضغْطة زرٍّ واحدة, لا أملُّ منْ التَّكْرار, الِمُّهُمْ ألّا ينْتهِي, ألّا يتوقّفُ للأبد, أمّا الأفلام التلفزيونية التّي كُنّا نجتمعُ أنا وأُخُوّتي لنُشَاهدها كُنتُ أُمقّتُها في أَغلب الأَحيان, كانتْ تنتهي بموت البطلة أَو البطل أَو حتّى بانتصار الخيْر عَلَى الشّرّ وزواج البطل والبطلة, كُنتُ أَكرهُ هذه النّهايات لِأَنّها تَحَدٍّ منْ خيالاتي ففي خيالي كانتْ تظَلُّ النّهايةُ مفتُوحة للأبد, يُمكنُني تخيُّلُ سيناريُوهاتٍ لَا نهائيَّة لِأيّامٍ وأسابيع أُشطّبُ وأُضيف لها التّفاصيلُ كما يحْلُو لي ولكنّي أتجنّبُ انتهائِهَا, كُنتُ أسرحُ في خيالاتي والجميع من حوليّ كانُوا يعتقدُون بِأنّي طفلة هادئةٌ فقطْ لَا تتحدّثُ كثيرًا ولَا تشاغب, لقد غاب عن الجميع سرُّ خيالي المُتّقد بالحكايات, كُنتُ برفْقة خيالي طفلةٍ محظُوظةٍ وغريبةٍ الأَطْوار في آنٍ معًا .
لكني كُنْتُ دوْمًا أخافُ أنْ تنْتهي الأشياءُ, حتّى أنّها إذا انْتهتْ بالفعْل أدّعي بأنّني لمْ أكُنْ أهْتمُّ بِها اصلّا ولمْ تكُنْ تعْنيني منْ قبلُ ولا منْ بعدِ, وأن تصرُّفي تجَاهَهَا كان بدافع الفُضُول ليْس إلّا, وبذلكَ كنتُ أتجاوزُ النّهايات الغارقة دُونما ابْتلّ, لكِنّي أُصاب بعدّها بِداءِ التّذكُّر الّذي لا ينْتهي, فيجْرُفُني معهُ في بحرًا منْ الدُّمُوع.

 عِنْدما كبُرْت رأيْتُ أنّ هَذِهِ السّياسةُ لا تُناسبُ شخْصِيّتُي فغيّرتْ سِياستي هذه تمامًا, صحيحٌ أنّني ما زلْتُ أَخافُ الاِنْتهاء فأتمسّكُ بِالأشْياءِ حتّى لَا تفلّتُّ, ولكنَّها إن أفْلتتْ لا أُلاحقُها أبدًا, أَصْبحْتُ أُعالجُ نفْسي بالمُواجهة, لا أَهرب منْ الأَشْياء, لا أُمسّح أرْقام هواتِف أو صُور لأَشْخاصٍ تركتْ أَيْديهُمْ يدي, ولا حتَّى أُعطي حظْرًا ولا أتجّنبْ الأَغنيات والذّكريات, فقطْ أُواجه, أُعَالج الأمور بِالمُواجهة, أنْظُر إِلَى الصُّورة مئة مرَّة حتّى تُصْبِحُ عاديةٌ, أتْرُكُها تأُذيني آلَاف المُرّات حتّى أَتجاوزها, أَسمع الأُغْنيّة حتّى أَهزمها فتتوقّفُ عن هزمي, أُمِرّ عَلَى الشّخص ملايين المرّات حتّى يُصبِحُ عَادِيًا بالنسبة لي , لقدْ تغلّبت عَلَى خوّفي منْ انتهاء أغلّب العلاقات بحياتي.

قُلْت لِنفسيّ لن تكُوني شجاعة قبل أنّ تذوُّقي ألم الحياةُ, الفقدُ, الخوف, الفشلُ, الضّعفُ...
ممَ تخافين تحديدًا؟ هل تخافين الموت ؟
أتذكّر أنّني سألتُ نفسي هذا السّؤال بِوضُوح قبْل عَامَانِ تقْريبًا مِنْ الآن, وأَنا مُمدّدةٌ عَلَى طاولة الجراحة في غُرْفة العمليَّات, وكانت إِجابتي بالنّفي طبعًا فأنا لستُ من النّوع الّذي يخافُ فقدان حياتهُ, كُنتُ دائمًا مُستعدَّة لِأن أَرحل دُونَ عودةٍ, غير أنّي فقط وقتها كُنتُ غارقة بعددٍ لا يحصى منْ الأَحاسيس والأفْكار, فسألني طَبِيبي وقتهَا فيما أفكّر, خِفّتُ يومُها أنْ أقُول لهُ عنْ مشاعري هذهِ, فيحسُبُ أنّ رأسي امتلأَ بالتّخدير المُنْتشر بالغُرْفة ولمْ أُعدْ واعيةً, فضّلْتُ أنْ أحْتفظ بمشاعري لنفْسيّ, فالكلمات التّي تصفُ الأَحاسيس تظلُّمُ مبْهمة لَدَى الأخر ما لمْ يشعُر بها, فمن الأفصل إذنْ الإعراضُ عنها والاِحتفاظُ بها, والانصرافُ إِلى وصف أَيٌّ شيء أخر, وصفُ الجمادات, الموقف, وحتّى وصف أنفُسُنا, لنقل, الاِنصرافُ إِلى وصف الوقائِع وصفًا واضحًا, فتمتمتُ وقْتُها بِبِضع كلماتٍ عنْ غُرفة العمليّات, وَقُولت لطبيبي أنّني أُفكّرُ في شكل الغُرفة لِأَنّني لم أَدخُل غُرفة عمليّاتٍ منْ قبل, فَرَدَ بابتسامة تُوحي بالتّفهُّم, وقالَ أنّهُ يُعتبرُ هذه الغُرفة بيتهُ ولا يُوجدُ بها أيّ جديدٍ بالنّسْبةِ لهُ, ولكنّ أذا كان يُوجدُ بها ما يُثيرُ اهْتمامك سأُرِيكَي مجمُوعة صوّر للغُرفة حَالَمَا تستَعِيدي وعيك بعد إِتمام الجِراحة بسلام .

لقد انحَرف مسارُ هذه التَّدوينة كثيرًا عمَّا كان بِخَاطري قبْلَ البدء في الكِتَابة, ولكن سأبدء من جديد.

اكْتُبْ هذا وأنا أتأمّلُ عضَةً صغيرةً عَلَى كفّي الأَيمن, وخدّشَ صغير بذراعي الأيسر, أَنّها آثار قطِّي سوكي. في عام 2016 وَتَحدِيدًا يناير, وُصل سوِّكي إلى بيتنا بعُمر الأُسبُوع, كان لِأُختي بِالأَساس أَخذتهُ منْ صديقةٍ لها, صغير بعينين صغيرتين مُشاكستين ولكن تملأُهُما البراءة, أغْلب الّذين عرفُوهُ كانُوا لَا يَروهُ جمِيلًا! كانُوا يَرَوا أَنّهُ يُشّبه قطط الشَّارع, ولكنّي كُنتُ أرَهُ جميلًا بلُونُه الرّماديُّ المُموُه وعيناهُ العسليّتيْن الصغيرتين, اصلًا وهل يملكُ المرءُ أن يختار مستوى جمال أطْفاله مثلًا! كان وهو عُمرهُ أسابيع ينامُ في سريري تحت الغطاءِ, أَرتبط بِنَّا أنا وأختي كوّننا منْ مُحِبّي القطط أكْثر منْ باقي أَفراد البيت, انفصل عنّي قليلًا في بعض الفترات الّتي لم أكُنْ قَادِرَة بها عَلَى الاعتناء به جيّدًا, ولكنّهُ مُنذُ العام الماضي أو أكثر أصبح لصيقًا بي, كُنتُ أَحبُّ اشتداد البرد لأَنّهُ لا يجد مكانًا أَكثر دفئًّا في المنزل منْ سريري, لا ينامُ إِلّا معي ولا يستيقظُ إلّا عندما أنهضُ منْ فراشي ولا يلعبُ أو يأكُل إلّا إِذَا كُنتُ بجانبهُ, في اللّيلِ كان أحيانًا يُصدرُ صوتًا مثل الشّخير, خُصُوصًا في فترات التَّزاوُج كان يمُوءُ بشكلٍ مُزعجٍ طوال اللّيلِ, كُنت أَحيانًا أَشعُرُ بألم وأنا بيِّن الصحو والنَّومُ فأجدُّ نفْسي في صراعٍ, هل أخرجُهُ من الغُرفة حتَّى أستطيع أن أَنام؟ لكنَّهُ كان يدُورُ في الغرفة بطُولها وعرضها ويختبئ منِّي خلف السَّتائر حتَّى لَا أخرجهُ, فيضحكُني بحركاته هذه, فأَتراجع عن فكرة  أَبعاده عنِّي فورًا.
دَائِمًا ما كُّنّا نقُول أنا وأختي أنهُ ينْسى تقريبًا كونُهُ قطّ ويُمارسُ سُلُوكيّات البشر, يتصرّفُ ويشعُرُ ويمُوءُ بلا توقُّفٍ وكأَنّهُ يحكي لِي قصةً, رغم أنّني قرأتُ أنّ القطط لا تمُوءُ هكذا إِلّا مع قطط مِثْلها, لِأنّها تعتقدُ أن البشر لنْ يفهمُوا السّبب وراء هذا المواء أو ذَاكَ, لِذلك هي لا تُتعب نفْسها بذلك, لكنْ سوكي كان قط مُخْتلف, يمُوءُ ليطْلُب كُلُّ شيْءٍ, وكُنْتُ أحْدثُهُ ليشْعُر أنّني أفهمُ ما يُريد, كان يقِف عند فتح الباب أو تحريك المفْتاح ليُنبّهني أنّهُ يرغبُ بالخُرُوج, أو أنّهُ مثلًا يُحِبّ تناول طّعامُه المُقرمشُ أو البيض المسلوق, كُنتُ أُدلّلُهُ وكأَنّهُ طِفلي الصغير, كان كلّ هذا يحدُثُ وسط استهْجان الكثيرين الّذين باعتقادي لا يعلمُون ولا يُقدّرُون بهجة أنْ يكوّنّ في منزلك حيوانٍ أليف يُحبك أو مُقرّبٍ مِنك!
تتأمّلُهُ وهو يلعب, تُراقب حكايات هُرُوبه القصير منْ المنْزل وهلع أنْ يُصيبهُ مكْرُوه, كُنت أتأمّل سعادتُهُ وهو يتكوم ويُلصقُ أنفهُ الرّطْب بالمدْفأة ويُحاولُ استدراج أيّ شيءٍ بكفّه الرّماديّ الصّغير,كانت مُشاهدتُه هكذا تُخرجُني منّي, كُنتُ أَدخُلُ في مُواجهات عديدَةٍ مع أمِّي عِندما تفحُ باب البيتِ وهو يجلسُ بقُربهُ, كانت تقول أَنتِ تُبالغين في حمايته, نعم, كُنتُ شرسةً في حمايتهِ هكذا كُنتُ أبقيهُ أَمام ناظري.
كُنتُ أعلمُ جيّدًا أَن أَعمار القطط قصيرة, ووُجُودهَا ذا أمدّ قصّير جدًّا مُقارنةً بنّا نحنُ البشر, ولكني كُنتُ أُبعد عنْ تفكيري شبح الاِنتهاء الّذي يُخيفُني دائمًا, كُنتُ أخبىء هذا الهاجس في صدري وأقول لِنفسيّ أنه أن كان القط يعيشُ حياةٍ صحّيّةٍ فيُمكنُني أنْ أَحفل بحياةٍ طويلةٍ معهُ, يُمكنُهُ أنْ يعيش معي للأبد.
عاش سوكي إسبُوعًا مأساويًا بِكُلّ المقاييس, وقُضِيتْ معهُ أوّل أَمْس ساعاتٌ بها الكثير منْ البُكاء والألم عليْه, والتّفكير في ماذا سيحُلُّ به؟ هلْ سيسْتعيدُ صحّتهُ في الغد؟  لا يُمكنُ أنْ ينتهي وُجُودُهُ هكذا فجأَةً, رُبّمَا يجدُ البعْضُ أنَّ هذا مُبالغة دراميَّة؟ ولكنّي لا أَسْتطيع مقاومة شُعُوري بحُزْني العميق لفقْده وانْتهاء حياته معي, ولمْ أبالغْ عنْدما أقُولُ أنّي لا أسْتطيع تصوُّر يوْمي بدُونهُ, قبلها بأيام ذهبْتُ للطَّبيب البيطريّ عنْدما اشْتدّتْ عليه علاماتُ الإرهاق وفقْد شهيتُهُ تمامًا, حتّى الماء ظلٌّ يوْمان لا يقتربُ منْهُ, أجْرى لهُ الطبيب بعْض الفُحُوصات الّتي أظهرتْ أنْ لديْهُ مُشكلة بالكبد  وقال أنّهُ بِحُلُول الغد سيُصبحُ بخيرٍ مع هذه الأَدوية, ولكنَّهُ في صباح اليوْم التّالي ازْداد وضعُهُ سُوءٍ, فقال الطّبيب أنّهُ لديهُ مُشكلة أَيضًا في الجهاز التنفُّسي كنت أشعر أن هذه فعلتي وخطيئتي, كان إحساسي بعجزي يفُوقُ احتمالي وأنا أشاهدُهُ يلهثُ لإلتقاط أَنفاسهُ بصُعُوبةٍ ولم استطع فعل شيءٍ يُساعدُهُ, وقتُها شعرُت بغُصّةٍ كبيرةٍ بِصدري كُنتُ أعلمُ أنها النّهاية, فكّرتْ وقتُها آه لو أَمكنني أنْ أعيش بمُفردي حتّى لا تفجعني النّهاياتُ بفقدان الأعزّاء مِثلمَا كُنتُ صغيرة, لكُنتُ فعلتُ دُون تردُّدٍ, ولكنّي أعيشُ وفق قوانينِ الحياة الّتي خُلِقَتْ وخُلقّتّ لها دُون رغبةٍ فَاستسلمتُ لتلكَ القوانين, أمَّا في داخليّ هُناك جُزءًا كبيرًا منّي يتمنّى لو مُتُ قبل موت منّ أحبُّ, كمُحاولةٍ منّي لحلّ ألامّ الفقد المُميت.

لازلتُ كما كُنتُ في صغري لَم أَتجاوز عُقدة النّهايات, والتّجاوُزُ لَا يعني بالضرُورة النّجَاةُ رُبّما يكُونُ غرق منْ نوعٍ أخر نجهِّلُهُ, بشكلًا أَو بآخَرَ تتداخل البداياتُ والنّهاياتُ في كُلِّ يومٍ وكُلُّ لحظةٍ, يبدأُ أَمر لينتهيَ آخرُ, وينتهي أَمر لِيُفسح المجالَ لِآخر, لَا نستطيعُ بكُلِّ الأَحوال أَن نضمن ديمُومَةَ أَيّ شيءٍ, ولكنَّ لأنَّ كُلَّ شيءٍ دائم حتّى يُحدثُ ما يُؤكّدُ عدم ديمُومته, وبطبيعةٍ بشريَّةٍ مُتأَصِّلة فينَّا أنَّ ما ارتحتنا إليه تملَّكنّاهُ أو رُبّما تملُّكنا, تكُونُ النّهاياتُ حينَئذٍ ٍفجيعة فعليّة.


الجمعة، 8 فبراير 2019

حكاية الرجل العادي

دائمًا مانقع في حب الأشخاص والأشياء الّتي تلامس شيئًا عميقًا في داخلنّا، وغالبًا نجد أنّنا نرتبط ببعض الكتب والأعمال الأدبيّة بشكلٍ مميّز عن غيرها، ومن بين كلّ الأعمال الرّوائيّة الّتي قرأتها هنالك ثلاث روايات تشعلُ الغضب بداخليّ لدرجة أنني كرهتُها قليلاً أثناء قراءتي لها، فقد كان كُرهي هذا نابع من حُبّي لها، تحديدًا حُبّي لأبطالها.



رواية "ستونر" لجون ويليامز وبطلها ويليامز ستونر.
رواية "شيطنات الطفلة الخبيثة" ليوسا وبطلها ريكاردو.
رواية "الأبله" لدستويفسكي  وبطلها الأمير ميشكين.
الثلاث شخصيّات كُنت أتمنّى لو أستطيع أن أخرجها من النّصّ، أصرُخُ بها، ألعنُها، أصفعُها، ثُمّ أعيدها للنّصّ لتُكمل المُعاناة الّتي جلّتني أرتبط بها.
من منّا بهذا الوقت يُمكن أن يتعرّف إلى ميشكين، ولا يشعُر بالقلق من طيبته المبالغ بها بعُرف زمننا هذا، من يُمكنُهُ أن يرى ما يفعله ستونر -أو بالأحرى ما لم يفعله ستونر- ويستطيع أن يمتنع عن الصُّراخ بوجهه، قائلاً لماذا لم تّتخذ هذا الموقف أو ذاك، لماذا يا ستونر ؟
أمّا ريكاردو فهذا لا يوجد به رائحة الأمل، تمنيّتُ أن أقتله.
بعض القراء يتصور أنّ الرواية هي مجرد خدر مؤقت، لتلهيّك عن واقعك المرير أو بأقلّ تقدير تجعلك تتهرّب منه قليل من الوقت ثمّ تعود لتواجه قُبحه، ولكنّ أيّ خطأ يقع فيه هؤلاء!
وكي أكون أكثر وضوحًا هُنا، أنا أتحدث عن "العمل الروائي والأدبي الحقيقي" ولكن تقرأون أشياء كحبيبي أنا أحبُّك كثيرًا لماذا تركتني، وتعتقدون أنّ هذا أدب أو رواية ! آسفة..  هذا ليس حتى هروب هذا انتحار بطيء.
سأُخص بالذكر هنا رواية "ستونر"، أريد أنّ أتحدث عن هذه الرواية حتى لا أنتهي، أريد أنّ أفيض وأسترسل في الكلام عن هذه الرواية العظيمة، أريد أنّ أترجم فهمي لهذه الشخصية ولكنّي عاجزة ولُغتي تخونني، تخونني حتمًا.
"ستونر" بالنسبة لي كانت رواية هروب إلى الواقع وليس من الواقع، وأعني بقولي هذا أنّك ببساطة تشعر وأنت تقرأ مثل هكذا أعمال أنّ هناك من يحملُك ويضعك أمام أقرب مرآةٍ ويقول لك انظر يا عزيزي ! هل تعتقد الأن أنّك تهرب من واقعك؟ عفوًا .. أنت غارق به لأقصاك.

كما ذكرتُ في مقدّمة حديثي أنّنا نرتبط ببعض الأعمال الأدبيّة والفنيّة أكثر من غيرها ،كمقطُوعة شعريّة أو موسيقيّة بعينها أو لوحة أو رواية أو حتّي مكان، يعود هذا الأمر إلى أنّ تلك الأعمال تمس شيّئًا فيّنا شخصيًا ،وغالبًا متي بدأنا مشاهدة فيلم ما أو سماع معزوفة أو قراءة كتاب، فهذه التجربة لاتكون مجردة من حُمولتنا الفكريّة والشعوريّة وحتّى القرائيّة السابقة، ولا تكون بمعزلٍ عن مُعتقداتٍّ وأهدافٍ كلاً منّا، وبالتالي تختلف القراءات، فقد يجدُ البعض مثلاً أنّ "ستونر" رواية عادية لا يوجد بها ما يستحق الذّكر أو الاهتمام، حتّي أنّني عند حديثي عنها مع صديقة وكانت قد قرأتها بعد ترشيحي الرواية لها، رغم أنّي لا أحب تقديم توصياتي ليقيني أنّ اطّلاعي محدود وصعب عليّ أن أنتقيّ لغيري، ولكنّها كانت قد سألتني بشأن تقديم توصيات روائيّة، ثم بعد أن قرأت ستونر قالت لي أنّ حديثي عنها مجرد مبالغة عاطفيّة أو أدبيّة، وأنّ "ستونر" لا يُوجد بها ما يُثير اهتمام وحماس القارئ ولا محلّ لها في سياق الأدب المنتشر الآن، واستشعرتُ من حديثها أنّ لديها تفاعُل قليل جدًّا مع شخصيّة ستونر، وقد يجدُ البعض الأخر أنّ ستونر شخصيّة تحمُّلٍ أفاق نفسيّة واسعة جدًّا، لذلك أعتقد أنّ هذا يعتمد على استجابتنا كقُراء.

اغلبُنا يعيشُ في مجالات ضيّقة جغرافيًا وثقافيًا، وقراءة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى قد تمنحُنا فُرصة عظيمة وتوسع لنّا الرؤية إلى خارج هذا المجال الضّيّق، تساعدنا علي الفهم، فالأدب تحديدًا قد يمنحُنا فرصة عيش التجارب التي لا نستطيع عيشُها في الحياة، يمنحُنا فرصة عيشُها وفهمُها، فهم الأخر، واكتشاف وفهم ذواتنا من خلاله، فابالنسبة لي الأدب أكثر كثافة وإفصاحًا من الحياة اليوميّة، لكنّه لا يختلف عنها كثيرًا، فقط إنه يُوسع عالمنا ورؤيتنا له ويحثنا على اكتشاف طرائق أخرى لتصور هذا العالم وإعادة تنظيمه والتّعامل معه، فنحنُ لا نستطيع العيش بمُفردنا حتّي لو رغبنا في ذلك، فرغم كُلّ محاولتنا للعزلة، نجد أنّ هذا شبه ميؤس منه، نحن كائنات اجتماعية بجدارة ولا مفرّ من ذلك، وأنا أقصد هُنا "اجتماعية" ليس بمعنى التّفاعل مع من حولنّا، ولكن اجتماعية بمعني التآثر والتآثير؛ وبرأيي أنّ الأدب هو أهم بوّابة تفتح لنّا امكانيات لا نهائية لهذا التّفاعل مع الأخرين، فالأدب هو ثراء، يثرينا لانهائيًا، داخليًا من خلال الفكر والشّعُور والحواس والروّح، وخارجيًا من خلال الارتقاء بلغتنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الأخرين، فهو ليس متعة فقط، بل هو سبيلاً للعيش.
هُناك وجهة نظرٍ تقول أنّ الأعمال الأدبيّة أو بعضُها حتّي لا نُعمّم ،مخصصة للنخبة من المثقّفين، وهذا أيضًا خطأ، فالأدب مُخصّص للجميع ومُتاح للجميع، وبه ومن خلاله يمكن لكُلّ إنسانٍ أن يجد ذاته، هُويّتُه، قدرُهُ في هذا الوُجُود كإنسانٍ، وستونر هو عمل أدبي يُجسّد هذه الجملة تحديدًا.

جون ويليامز  (١٩٢٢-١٩٩٤) روائي وشاعر أمريكيّ ألّف ٤ روايات، الأخيرة لم يُكملها، أهمُّها رواية "أغسطس" ورواية "ستونر" وأصدر ديوانين، كانت أعمالُه تلقّى نجاحٍ بسيطٍ وغالبًا طبعاتٍ محدُودةً وينتهي الأمر بسلام، درس البكالوريوس والماجستير في جامعة «دنفر» ودرس الدكتوراه في جامعة «ميزوري»، ثُمّ بعد ذلك عاد ليُدرس في جامعة «دنفر» شعر عصر النّهضة والكتابة الإبداعيّة، كتب رواية ستونر التي تدوّر أحداثُها في جامعة «ميزوري»، وفي رأيي أنّ هذه الرواية أقربُ إلى السّرد الذّاتيّ رغم نفي ويليامز ذلك في المُقدّمة -هذا النّفي الّذي يصلُح أنّ يكون قرينة اثبات- والّتي يُمكّنّ لمن يقراء السيّرُ الذّاتيّة أنّ يكتشف بكلّ سُهُولةٍ أنّ ويليامز يتحدّثُ عن نفسه مع بعض الاختلافات البسيطة الّتي يستلزمُها التّخيّل، أحد أصدقائه يصفهُ بأنّهُ (هيمنغواي دون صخب وفيتزجيرالد دون أناقة) ويقول يكادُ يكون مشهُورًا لكونهُ ليس مشهُورًا، نُشرت ستونر في مُنتصف الستّينات من القرن الماضي، ولم تلقّى النّجاح الّذي تستحقُّهُ وقت صُدُورها، هل ممكن أنّ رواية كهذه لم تنجّح وقت نشرها؟ كثيرُون يعزُون ذلك إلى الثّقافة الأمريكيّة السّائدة وقتُها، الّتي كانت تفضُّل رواية عن بطلٍ ناجح، وليس رواية عن شخصٍ عادي كويليام ستونر، أيضًا يعُوُد السّبب في ذلك إلى أنّ تلك الفترة التّاريخيّة كانت لا تتحمّل هذا النّوع من الأدب، فالكُتُب الّتي كانت سائدة وقتُها كانت تتحدّثُ عن الخيال العلميّ والوُجُوديّة والحرب العالمية الثّانية، الحرب الّتي تظهرُ في رواية ستونر كخلفيّة للمشهد، فكان من الصّعب على القارئ الأمريكيّ أنّ يتقبّل من يخبرُهُ بأنّ ذلك الوُجُود عبثي بشكل يصل إلى العدميّة، كان الإنسان وقتُها في مرحلة إثبات وُجُوده، كان من المُبكر جدًّا أن يُخبره أحد بلا جدوي الأشياء.

يُركّز جون ويليامز  في هذا النّصّ الأدبي على شخصيّته الرّئيسيّة ستونر وحياة المقرّبين منهُ وعلاقاتُهم به، كصديقة ماسترس والآثر الذي تركهُ داخلهُ حتّى بعد موته ورغم عُمر صداقتهما القصير، وعلاقتُهُ العاطفية الحقيقة الوحيدة ب كاثرين الّتي أعادة صياغة مفهُومه للحب، وزوجتُه إديث الّتي قد أعتبرها من أهمّ الألغاز المحوريّة في الرواية، وعلاقة زواجهم المضطربة، ‏‎كذلك علاقتّه بإبنته وأساتذته ووالديه والجامعة والحياة الأكاديميّة، أمّا الأحداث الخارجيّة الكبيرة المُؤثّرة كالحرب فنجد انها تسير كخلفية مع تاريخ هؤلاء الأبطال كضرُورةٍ فنّيّةٍ تكميليّةٍ لزمن الحدث الرّوائيّ، ويليامز لا يُحمّلُ شخصيّاتهُ أفكارٍ عظيمة وبطُوليّةٍ، ولا يجعلُها شخصيّاتٍ خارقةً تظهر بصُورة البطل النّادر أو تُقدّم قصّة كفاحٍ ونجاح، ولكنّ هذه الشّخصيّات تحملُ بين ثناياها مساحات هائلة من الأسئلة والأفكار، لا يتّجه مثلًا إلى مصير الكائن البشريّ أو قلقهُ أو عذاباتُه بشكل مُباشر، ولكنّهُ يبحث في شخصيّاته ومسيرة حياتهم ويُظهر الجوانب النّفسيّة لتلك الشّخصيّات بطريقة فلسفيّة بسيطة وواقعيّة بدرجة عظيمة، وذلك ما دفعني للتأمُل أكثر .
شارك كاتب الرواية جون ويليامز في الحرب ولقد رأى الكثير من الدّم، الكثير من القتل الأعمى، وظلّ يُعاني بقيّة حياته من عُقدة النّاجي كما ذكرت زوجته في أحدى المّقابلات، وأعتقد أنّهُ لذلك سمح لستونر أن يتّخذ قرارًا صائبًا، وهو ألا يفكر في الحرب أو في الذّهاب أليها، ففي الوقت الذي يذهب فيه غالبيّة الشباب تحت ضغط الشّعُور القومي إلى الحرب، يُقرر ستونر أن يبقى في الجامعة، لم يذهب للحرب، ولم يجد بداخلهُ كراهية للالمان، وإن كان هُناك شُعُور بالاستياء قد توالد في نفسهُ، فهو استياء من التّمزّق الّذي وجده في الجامعة بسبب الحرب، وعلى عكس الكثيرُون الّذين قد يَرَوْا في تصرُّف ستونر هذا جُبنًا أو افتقارٍا للإرادة، فأنا أعتقد أنّهُ كان لديه أرادة قوية وشجاعة، سمحت لهُ بألا يهتمّ بما يتوقّعهُ العالم منهّ، فهو يعرف نفسهُ (لا يحتاج مثلاً للذّهاب للحرب ليُثبت شيئًا لأحد)، فهذه إرادة يُحسد عليها.
تتناول الرواية أحداث تاريخيّة شهيرة مثل الحرب العالميّة الأولى، وفترة الكساد الاقتصاديّ الّذي عصف بالاقتصاد الأمريكيّ، مُحاولًا جون ويليامز أن ينقل لنّا التّأثيرات الّتي يُمكن أن تنعكس على الأشخاص المُباشرين لهذا، وقد ذكّرني هذا الأمر بالكثير منّا الذين لا يُدركُون علاقتهُم المُباشرة بالوطن أو أيّ مُحيط خارج أنفُسهُم، ليس لأنّهُم يُقرّرُون الانتماء من عدمُه، بل لأنّ الأمُور تسير علي هذا النحو ببساطة، فقد يستغرقُ المرءُ منّا في عالمه الخاصّ بعيدًا عن أيّ نجاحٍ أو بُطُولة تشهد علي قصص كفاحه في الحياة، ولكنّي أعتقد أن ستونر حالة مختلفة تمامًا، هو حالة خاصّة واستثنائيّة، قد تتشابه مع البعض وقد تتقاطع التّفاصيل مع بعض الأحداث في حياة البعض منّا، ولكنّ شخصيّة ستونر ليست الغالبة أو المُعتادة، لقد كان لديه تعامُل شديد الخُصُوصيّة في كلّ مواقف ومُنعطفات الحياة، كان يُدرك ما يُريد ويفعل ما يُريد، وقد منحهُ هذا هُويّة خاصّة ومّنفردة.
أكد جون ويليامز كاتب الروية في حوار صحفي لهُ أنّ ستونر بطل حقيقي لم يعش حياةً بائسةٍ كما يعتقد القارئ
‏حيثُ يقوّلّ: "لقد كان ستونر بطلًا حقيقيًّا، كثير ممّن يقرءون الرواية يظنُّون أنّ حياة ستونر كانت سيئة وحزينة، أعتقد أنّ حياته كانت جيّدة جدًّا، ‏كانت حياته أفضلُ من حياة كثيرٍ من النّاس فقد كان يعمل ما يريد عملُهُ، عملُهُ منحهُ هُويّة خاصة وصنع شخصيّته".
قال ويليامز  أنّهُ أدرك ما سيشعُرُ به القُرّاء بعدما رأى سكرتيرتهُ وهي تطبعُ الفصل الأخير والدّمعُ ينحدر على خدّها.

أري أنّني أسهبتُ في الحديث عن "ستونر" بالفعل، ولكنّي مازلتُ أشعر بإجحاف في حقّ هذه الشّخصيّة، ستونر والّتي أعتبرُها من أكثر الشّخصيّات تعقيدًا، لقد كانت كُلُّ هذه الأحداث والأفكار تدُور داخل شخصٍ صامت أغلب الوقت، لذلك أعتقد أنّهُ تجسيّدًا لحقيقتنا الإنسانيّة المُركّبة من عشرات الأبعاد والتّناقُضات، ورُبّما هذا هو سبّب تأثُّري الشّديد بالرواية، وبصراحة أرعبتني الرواية في بداية الأمر، ووجدتُ نفسي أتساءلُ بأحباط شديد ..
أهذه هي الحياة ؟
أهذا كُلُّ شيء؟
حسبتُ أنّ هُناك المزيد ...
هل هذه الحياة تستحقُّ عيشها ؟ ثُمّ مع الوقت بدأت أشعر أنّ كلّ شيءٍ يمضي حقًّا، ورُبّما أن تمضي الحياة بوتيرةٍ بطيئةٍ كحياة ستونر لهو أفضل من استعجلها.
كما يقُول محمود درويش:
"سَيَرَى بِبُطْءٍ يَا حَيَاةٌ لِكَيْ أَرَاكَ بِكَامِلٍ النُّقْصَانُ حَوْلَي"


أيضًا ولعلّ السّبب الّذي جعل هذه الرواية تُحدثُ هذا الآثر في نفسيّ، هو أنّ ستونر كان خارج النسق، رغم أنّهُ رجُلُ الحياة العاديّة، رجُلُ اللّامبالاة، رجُل يعيش ويُفكّر ويتصرّف ويمّوت بطريّقةٍ عاديّةٍ، لقد دفعني للتّأمُل والتّساؤُل كثيرًا،
ماذا لو كانت الحياة بطيئة؟
ماذا لو كانت الحياة عادية ؟
ماذا لو كُنتُ أنا ستونر أخر ؟
وبمُرافقة ستونر من أوّل صفحة للنّهاية، وجدتُ أنّني لا أنتظر منهُ أن يكُون بطلًا، أن يواجه إخفاقاتُهُ ومعضلاتهُ بقُوّةً وشجاعة، أو أن يُبرّرُ فلسفتهُ للجميع أو أن يتبنّي رُؤيةً أو يُنكرُ غيرها، لقد كان في عاديتهُ هذه استثنائيًّا وهذا يكفي، وفي رأيي أنّ ستونر ما كان ليعيش حياتهُ بغير هذا لو مُنحت لهُ الحياة مجددًا، هو هكذا. فمن أنا لأقرّر كيف يعيش هو؟!

(صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ، أنتَ وحدك الحقيقيّ)... بسام حجار.


كتابة جون ويليامز رائعة وبناءهُ السردي عظيم ومُترابط، وتتجلّى موهبتهُ في قُدرته على حبك رواية شديدة الجمال من قصّة حياة شديدة العادية، الرواية مكتوبة بلُغة عاطفيّة آسره جدًّا، لقد كان قلبي يخفقُ بشدّة أثناء قراءتي لها لشدّة تأثُّري بجماليّة النّصّ، والمُفارقة هُنا أن يكُون النّص مكتوب بمثل هذه اللُّغة النثرية المصاغة بدقّةً وبارعة وجماليّة للغاية، وأنّ يحمل معهُ هذا الكمّ الهائل من الألم المرارة.

ستونر ابن القرية المُزارع الّذي دفعهُ والده العاجز عن حلّ أزمات مزرعته وجفاف أرضها، إلى أن يلتحق بالجامعة ليدرس الزراعة، ويعُود إلى المزّرعة ليستخدم ما تعلّمه في سبيل تنمية المزرعة ومساعدة والده ووالدته في أمُور حياتهُم، وفي لحظة تجلًّ كان فيها خارج الزّمن حين سمع سونيتة لشكسبير، لم يلبثُ بعدها إلا أن غيّر مسار دراسته من الزّراعة إلى الأدب، وبكُلّ هذه السّلاسة السردية والانثيال العاطفيّ الآسر وغير المُضجر، ندخُل إلى عالم ستونر، فنصدم بمواقفه في الكثير من الافكار والمواقف في الحياة مثل الحب، فنجد الكاتب يقُول عن ستونر :
«في شبابه ظن ستونر أن الحب حالة وجودية صرفة قد يدركها المرء إن كان محظوظا وفي سنين نضجه قرر أن الحب هو نعيم خادع يجب ان يحدق فيه المرء بكفر مرح وعصيان مألوف وطيب وحنين مرتبك. والآن بدأ يدرك وهو في منتصف العمر أن الحب لا هو بحالة إجلال ولا هو بوهم، بل تحرك إنساني نحو الصيرورة، ظرف يتم اختلاقه وتعديله يومًا بعد يوم ودقيقة تلو الاخرى بالإرادة والعقل والقلب.»،
وعن  الموت يقُول:
«حين كان يفكر في الموت من قبل كان يعده أما حدثا أدبيًا أو أنه الإنهاك البطيء الهادئ الذي يفعله الزمن في الجسد الفاني. لم يفكر فيه كأنفجار عنيف في معركة أو تدفق دم مفاجئ من رقبة.»
وعن الوحدة:
«لم يكن لديه أصدقاء، ولأول مرة في حياته شعر بالوحدة. كان أحيانًا وهو في عليته، في الليل، يتوقف عن القراءة ويتطلع لأركان غرفته المظلمة حيث يتراقص لهب المصباح في الظلام، ان حدق طويلًا بتركيز تتجمع الظلمة في كتلة ضوء تتخذ الشكل اللامادي لما كان يقرأه، ويشعر بأنه خرج من الزمن كما حدث ذاك اليوم في قاعة الدرس حين وجه اليه ارشر سلوان حديثه، يتجمع الماضي ويخرج من الظلام، حيث ظل قابعًا، ويعود الموتى إلى الحياة يقفون أمامه، ويسير الماضي والموتى في الحاضر بين الأحياء وفي لحظة زاخرة تأتيه رؤية كثيفة فينمدج فيها دون أن يستطيع الخروج منها، ودون أن يرغب في الخروج منها»


كانت حياة ستونر زاخرة وكثيفة رغم الرّتابة والبُطء الّتي تُغلّفُ أيّامُهُ، شعرتُ أنّني أتهاوى في شخصيّته أكثر من اللّازم ولم أخرج بعد ، فلم يبتعد ظلُّ ستونر عنّي حتّى الآن، شعرتُ كما لو أنّني كُنتُ بجانب نفسي، وانتابني حُزنٌ عميق لا تفسير لهُ، رُبّما لأنّني رأيتني فيها بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة، كم تقاطعت مشاعرُهُ وإخفاقاتُهُ وصدماتُه وخيبة أمله بالحياة معي في الكثير من تجربتي الشّخصيّة، لا اعلم كم يلزم من الوقت لأتجاوز نصًا ادبيًا كهذا، رُبّما لن افعلُ ابدًا.


الجمعة، 24 أغسطس 2018



كلما اقتربت من البشر أكثر عرفت أن هناك صيغًا مبتكرة وغير مألوفة للأذى، وأيقنت أن استحقاقنا للاحترام أكثر صعوبة ومشقة واهمية من منحه للبعض، وأن هكذا هم البشر تتبدل أهواءهم ووجوههم كما يتبدل الليل بالنهار، وكلما ابتعدت عنهم عرفت نفسي وأصبحت أكثر أتساقًا معها.

في عصر السوشيال ميديا لا أحد ينجو من مقصلة الاحكام والتشهير والتنمر والاتهام ،لا أحد يفلت من فخ (السكرين شوت) ومن ثم يقع فريسة ضعيفة لنفرّغ به كل أزماتنا الأخلاقية وعقدنا النفسية وكأننا نحن أصحاب النفوس السويّة ، الجميع يفعلها حتي وإن كانت بدرجات متفاوتة.
والبعض منا قد نجده مبدعًا في إحداث الأذى بالآخرين، لذا إذا كنت هشّ الروح ،حساس المشاعر ،فحريّاً بك أن تتوقف قليلاً ولا تتوغل في مستنقع البشاعة هذا ، لأن أول ما ستناله منه هو أن يذهب نقاء روحك .

الشهور القليلة الماضية التي قاطعت فيها كل السوشيال ميديا وابتعدت عن جو المزاحمة ومشاركة كل شيء تقريباً ،كانت بمثابة فترة أعادة تأهيل لتفكيري ،ولأنني لم أكن بوضع صحي ونفسي ولا حتي مزاجي يسمح لي بالردّ والشرح والتبرير وخوض نقاشات عقيمة ودخول جدالات لن تعود عليّ بشيء ،لأنني أيضًا لازلت أؤمن بالسكن الداخلي للإنسان ،فكان هذا التوقف ضرورة ملحة وكأنه إعلان لهدنة مؤقتة من العالم الافتراضي وحتي الواقعي ، حيث أنني شخص يمتلك دائرة معارف وصداقات محدودة  .

 لم يكن قرار الإنقطاع هذا بتخطيط مسبق مني ، ولا حتي بمعرفة ووعي لما سيؤول إليه ،ولكنه حدث بشكل تدريجي، رويدًا رويدًا شعرت أنني في عزلة شبه صحيّة ، ومن أجل ذلك، وبعد الابتعاد لأول يومان اتخذت قرار التوقف والامتناع عن أستخدام كل وسائل التواصل ،لعل هذا يلملم شتاتي ويعينني في استعادة ماتبقيَ من إنسانيتي المدهوسة تحت عجلات هذا العالم المتسارع المليء بالكراهية والظلم المبثوث في كل أرجاء الكوكب.

كُنت أشعر أن هاتفي قد أصبح امتداد ليدي ، أحمله معي أينما ذهبت ، أتركه الآن بغرفتي دون أن أشعر أنه فاتني شيء بالغ الأهمية ، وبالفعل كُنت قد فرضت قيودًا علي نفسي ووضعت حدّاً لاستخدامي لفيسبوك مُنذ عام تقريبًا، ولكن هذا لم يكن كافيًا ، فجاء دور باقي منصات التواصل الاجتماعي الآن بالتبعية، حتي أمتنعت عن استخدامها تمامًا بالشهور القليلة الماضية ، وعلي الرغم من أن للسوشيال ميديا جانب إيجابي لا يمكن أنكاره ولا يخفي عن أحدّ ،فقد أعطت للجميع مجالًا واسعاً للتعبير عن الذات من خلال طرح الافكار والأراء بحرية ،ويمكننا اعتبارها منصة للمقهورين يوصلون من خلالها أصواتهم للعالم ،كما أنها مساحة جيدة لتوسيع دائرة العلاقات ، وأيضًا قد خلقت بيئة أكثر ثراء في المحتوى المعلوماتي ،فضلاً عن إثرائها لمنظومة الإنسان الثقافية والفكرية والتوعوية، وهكذا، فمن الواضح أنها حققت فوائد لا تُحصى ولا يمكن تجاهلها في حياتنا.

ولكني الآن قد بتُ أكثر إيماناً أن الأثار النفسية لمواقع التواصل الاجتماعي أيضًا لا يمكن حصرها ، وإذا اعتبرنا فيسبوك- حيث أنه الشبكة الأوسع أنتشاراً والأضخم من حيث عدد الأفراد المستخدمين- يفوز بنصيب الأسد من هذا فلن نكون ظالمين ، فآثاره النفسية السلبية حدث ولا حرج ، وصلت إلى حدّ الاكتئاب الحاد والانتحار والتوتر المفرط والقلق وزيادة مشاكل النوم والثقة الزائدة الغير مستحقة وتشوّه رؤية الذات الحقيقية ، وحالات التحرش الالكتروني والتعدي اللفظي ، ناهيك عن حالة التوجس الدائم وعدم الرضا وشيوع الكراهية التي تسمم فضاء الإنسان ،وسلوكيات التنمر والسخرية والعنصرية والحط من قدر الأفكار والأشخاص... الخ ، وعلي هذا لا يمكننا الحصر ولا التحكم في الاثار النفسية والاجتماعية الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي .

جون بول سارتر لم يعاصر سنابشات ولا إنستغرام ولكنه وصفهما بدقة عندما قال
"لكي يصبح أتفه حدث مغامرة، فيجب ويكفي أن يأخذ المرء بـ"سرده" وهذا ما يخدع الناس". هذا ما فكرت به تمامًا عندما استخدمت سنابشات لأول مره ،فأنا بالأصل لم أكن استساغه ، ولكني فكرت باستخدامه بتوصية من صديق للتخلص من الملل ، فعُدت واغلقت حسابي بعد يوم واحد من تسجيل دخولي له ،أما إنستغرام فكان في بدايته تطبيق لطيف كونه يوثق اللحظات الجميلة عن طريق الصور، ولكنه غدا بالنسبة لي مكانًا لا يطاق ، أن أشاهد صوراً طوال الوقت للبشرية جمعاء في لحظات السفر والاستمتاع والاستجمام وحتي أوقات العمل والأحداث العادية والمكررة ، فهو -بالنسبة لي طبعًا- ضربًا من العبث، برأيي أن الصورة بالأساس هي مجرد إطار يحاكي هذه اللحظة فقط ، لحظة واحدة ، وليس كل الأوقات والنشاطات والأحداث العادية المكررة فقط لإظهار جانب واحد من حياتنا مشرق ومثالي حدّ الزيف ! قطعًا أنا هنا لا انتقد أي شخص يستخدم هذه التطبيقات بسلوكيات مغايرة لرأيي ،ولكنني أحاول إيضاح رؤيتي لها فقط.

ثم وبعد سنوات من ثورة الأنترنت أصبحت أري أن وسائل التواصل بشكل عام باتت أشبه بسعار استهلاكي وجنسي قبيح جداً ، سباق دائم خلف معايير جمالية واجتماعية خيالية يحلُم الجميع بالوصول إليها، صراع مستفحل لجذب انتباهي كمستهلك ،تفشت ظاهرة التسليع والترويج لأي شيء وكل شيء تقريباً ، موجة غير مسبوقة من الأسهاب الإعلاني الرخيص لتصنع معها جيلاً قادمًا يقود نفسه إلي الأنانية والسطحية أكثر مما يجري الآن.
 وصلت بي لدرجة أن أرسل شكر لأي حساب مخلتف وجمالي أو ثقافي أو فنّي بعيد عن أغبياء ومشاهير السوشيال ميديا   و"الفاشنيستا والفود بورن" وكل هؤلاء الذين لا أعرف ماهي علّتهم تحديداً .

 لقد تخلصت من أول فكرة كانت تطرأ ببالي حول أي شيء "كيف أشاركه؟"، كيف أصيغه في بوست أم تويت أم الأفضل أن أدونه بصوره بإنستغرام ، فكانت هذه الفكرة مزعجة بالنسبة لي وتأخذ من تفكيري بجوهر الشيء ومحاولتي لاستيعابه فكريًا و شعوريًا، أصبحت أكتب وأدون علي مفكرة هاتفي او في دفتر يوميات بشكل أطول وأكثر بساطة وراحة بعيداً عن هوس الأعجابات والتعليقات والمانشن والشير، وكل تلك الرموز التي علي اساسها يتم تحديد قيمتك في مجتمع السوشيال ميديا.
تخلصت من الحدود المقيدة للفكر وللشعور الي تفرضها علينا السوشيال ميديا، علي سبيل المثال حدود الأحرُف في توتير، وفي إنستغرام هناك عين الكاميرا والفلاتر والكابشن حتي أُلائم "المقاييس الخاصة" للتطبيق ، وأيضًا مراعاة من يقرأ كلامي وكيف تُفهم مقاصدي في المحيط الفيسبوكي  ، استبدلت فيسبوك وإنستغرام بقنوات يوتيوب وقوائم لأفلام وكتب وبودكاست ووثائقيات لا تنتهي ويمكنني أن أستمتع بها أكثر ،أفضل الدوائر الصغيرة الحميمية التي يمكنك السيطرة بها علي المحتوي الذي تشاهده او تشاركه ،لقد اصطفيت القناعة بالنفس علي هوس المشاركة الجماعية وكم الأعجابات وحبّ المديح وجو النفاق الاجتماعي .
لقد أستراح عقلي من السباق اليومي لمشاهدة كل الستوريز والتريندات السخيفة  وكل هذه الاشياء التي تظهر وتختفي لتُشعرك أن كل البشر أصبحوا نسخ سيئة ومكررة من بعضهم ، هدأت نفسي من كل الأشياء الي أراها ولا أستطيع الحصول عليها، استهلاكي للأشياء الزائدة قلّ كثيراً ، خف هوس التسوق ولم أعد أشتري إلا الأشياء التي أحتاجها فعلاً، أنعتقت من النموذج الذي أفرزته السوشيال ميديا للفتاة "الدلوعة الكيوت" و للمرأة "Strong independent woman" فتيات كثيرات ذوات عقول ناضجة كُنا نحسبهن ذوات مواقف إنسانية حقيقية ، ولكن الإيام أثبتت أنهن لسن أكثر من ساعيات للبروز الاجتماعي في محيط السوشيال ميديا، تجدها تستجد الشهرة لتكون محط اعجاب ولفت للأنظار فتسقط في وحل السخافة والدناءة في آن معًا ، تجدهن كاتبات وناقدات ومدونات في صورة فاشنيستا، كل ذلك من أجل أن يُشعرن أنهن أفضل من غيرهن وأجمل من غيرهن ومحط اهتمام  أكثر من الباقيات .
أعلم أنه ليس من شأني تحديد ما إن كان ما يقوم به غيري  سخيف أم عظيم ، وليس من واجبي الحكم إن كان هذا شيء مهم وأصيل أم سطحي ومزيف، ولكن كما ذكرت أعلاه ، جميعنا يمارس هذا بدرجات متفاوتة إن كان بوعي منا أو دون وعي ، هذه هي ثقافة الانطباعات والأحكام الظاهرية للسوشيال ميديا.
الجزء الأهم في هذا كله أن خصوصيتي بعد الابتعاد أصبحت بوضع أحسن كثيراً ، وهي لو تعلمون راحة بال منقطعة النظير.

‏ دان سلوبن لديه طرح يسمي (Thinking For Speaking)،وهي نمط مختلف من التفكير ندخله علي أفكارنا قبل أن نتحدث  بأي شيء ، كنوع من التهذيب والقولبة للأفكار ، وهو يتضمن تطويع كل أفكارنا بحيث أن  تتماشى مع القواعد والمفردات اللغوية المطروحة أو السائدة ،ووضعها بقوالب قابلة للفهم والتواصل  .

‏ومن هذا المنطلق فأنا أعتقد أن هناك نمط آخر للتفكير وهو
 (Thinking For Social Media)، وأعني بهذا أننا نحصر أفكارنا بقوالب فكرية محدودة ونصيغها بلغة محددة ،لغة قاصرة "وقابلة للانتشار " بشبكات التواصل الاجتماعي " اللغة السائدة" ، وأعتقد أن هذا شيء غير صحي لعقولنا وطريقة تواصلنا ببعضنا البعض ، كذلك أري أنه من واجبنا تجاه أنفسنا أن نكسر هذا النمط بين حين وآخر.

أخيراً نحن في العالم الافتراضي مجرد ظلال لشخصياتنا ، لسنا ذواتنا بصورتها الكاملة والحقيقية ،هناك عدة جوانب لنا محجوبة حتي عن انفسنا، وايضًا ممن المهم أن لا ندع هذا العالم الافتراضي يشكلنا بعد أن كنا نحن من شكلناها.

لقد غادرت السوشيال ميديا لهذه الأسباب ، ربما تكون مفهومة لدي البعض، وطفولية لدي البعض الآخر، وردة فعل مبالغ بها لدي الكثيرين،
ولكني لا أهتم بالرجوع إليها في الوقت الراهن.
هل سيتحسن العالم بهذه العزلة ؟ بالتأكيد لا
هل ستستمر هذه المقاطعة للأبد ؟ أيضًا لا ، ولكني أأمل أعود لها بسلوكيات مختلفة.



الخميس، 19 أبريل 2018

بعد منتصف الليل


وبينما ينشغل العالم في الخارج بالحروب والخدع والتطبيل والتهليل والهبل والسياسات الخرائية المبهمة، أنزلق أنا في حوض الأستحمام مثل أي ترس أنساني بائس في هذه المنظومة الكونية البالية، أتحدث إلي زجاجة الشامبو بصوت خفيض ومتقطع أشبه بحشرجات، وكأنني أبحث عن ملاذ،
أيها الشامبو لم أعد احتمل، لم يعد بأمكاني حصر أخطائي المتكررة أو تقيمها بدقة ومهارة كالسابق ..
ترد هي : لست طبيبك النفسي، أنا مجرد زجاحة شامبو أيتها الفتاة الدرامية الحمقاء.
أرد عليها بشكل تلقائي وطفولي : أرجوكي، يجب أن تحترمي البعد المأساوي لشخصيتي .
تقول  : حسناً .. ماذا بكي ؟
أقول  : لم أعد أحتمل تكاليف عاطفتي وأفكاري، ولا يمكنني التخلص من سطوتهما عليّ، دائماً ما أجدني أتبع الحد اللانهائي للمشاعر والأفكار، الحد المتطرف.
فترد قائلة : تعرفين جيداً كم هو مكلف أن تتطرفي.

أسترسل في حديثي عن تلك الأفكار لأقول لها : أخر مرة كنت أفكر فيها في الرب انتابني شعور غريب بالحزن والأسى تجاهه، كم هو كائن وحيد وأزلي في وحدته ولديه ليل لا ينتهي، قد شعرت أنني مثله، كأنني إله لديانة فانية، هجرها كل أتباعها وتركوا معابدها للصدأ ، شعرت أنني وحيدة مثل إله هذه الديانة، كان شعور مثقل بالوحشة، تلك الوحشة التي تنتابك وسط الجموع حينما تتضخم عيناك بالدموع، ولكن لا أحد يستطيع أن يلحظ ذلك.
أجد زجاجة الشامبو تتجاهل حديثي، فأكتفي بهذا القدر من هذا الحديث الجنوني كليًا وجزئيًا، كان يجب علي اصلاً أن لا أشارك أحداً هذه الأفكار وألا جعلت من نفسي أضحوكة. 
أخرج من الحمام ثم أرتدي ثوباً فضفاضًا ليمر الهواءمن خلاله، أن الذي يربت علي قلوبنا في لحظات من الوحده كهذه ليس سوى نسمات الهواء البارد، ربما تستطيع لمسته أن تخفف من وطأة كل هذا، أذهب لسريري بجانب النافذة أنني احرص على أن أبقي الستائر مفتوحة على هذه السماء الواسعة حتى الصباح، يمكنني الآن أن أزيل هذا الحاجز الكثيف من الضجيج الذي يحول بين روحي وسمعي، تلك الحاجز الذي يحرمني من الأستماع الى صوت العالم وإلى الأصغاء للطبيعة وحركة الأكوان، لصوت وخزات المطر وحتى إلى الأخر وإلى نفسي، يمكنني أن أسمع صوت الليل يصدر صفيراً حادًا يثير مشاعر الشجن بداخلي، إن هذا الوقت من الليل الذي يُسمح فيه للأرض بكل ما عليها بأن تكون متعبة، دون أن تضطر لأرتداء قناع وجه مزيف غير الآلم، يمكنني أن أسمع أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في أذني، لطالما أعتقد أنني يوماً ما سأجد طريقة سرية وخاصة لأرى بها الموسيقى وهي تسري بداخل الآلات، وربما وقتها فقط سأتخلى عن مشاهدة الأفلام، وعن القراءة، عن مخالطة البشر، وسأظل أتاملها حتى الموت.

أراقب تلك الأضواء الخافتة المنبعثة من النجوم في السماء، أراقب تلك الأجسام المضيئة وهي تذوب وتتلاشى من حولي ، أراقبها هكذا دون الرغبة في أن أسأل مثل أي إنسان آخر هل تبقى ليّ وقت لتصحيح كل هذا ؟
أيها القيد الخفيّ الذي يحول دون أن تغمض عيناي، هل هذا العالم حقيقي؟ هل هو واقعي؟ أنني أحس بواقعية كل الأشياء التي تمارس ثقلها عليّ في كل لحظة، ولكني لا أدري إن كان شيئًا من هذا حقيقيًا أم لا، يبدو ليّ أن هذا العالم وكأنه كابوس طويل مزعج، لا يمكن الاستفاقة منه، يبدو ليّ أن هذا الكون الفسيح المرئي والأكوان الآخرى التي لا يستطيع بعض البشر أدراكها، يبدو لي وكأنه مجرد حلم في إغفاءة قصيرة وهانئة للرب.
أيها القيد الخفيّ، ما هو الشيء الحقيقي في أن أتأمل كل هذه الألوان دون أن أمتلك لونًا خاصًا لي؟
ما اللون الذي ينبغي علي أختياره كي لا تقع عيناي في فخ التوهج واللمعان المفرط للأشياء البعيدة أو المزيفة ؟
وإلى أي مكان في هذا  الكون يمكن للإنسان أن يهرب إذا كانت كل الطرقات توصله إلى نفسه في النهاية، إلي أين وكل الأبواب مفتوحة في صدرك لتقفذك من جديد  إلى ذاتك فقط ؟

أنني مرهقة من التحديق في تلك النجوم التي لا تضيئ جيدًا  في هذه البقعة البائسة من الكون، متعبة من أرتداد هذا الظلام المتناهي في السماء إلي داخلي، متعبة من ذلك التداخل بين أعمدة الأنارة والتشتت الذي تبعثه في نفسي عبر عيناي، من كل هذه المحاولات المستميتة التي تبددها النجوم عبثًا حتى تصبح حقيقية  وذات معني أكثر، متعبة من البحث عن واحدة ليّ لا تنطفئ ولا تغير موقعها.
وأتمنى لو كان بأمكاني الرحيل لأنه لم يعد بأمكاني تفادي كل هذا الضياع.

الأربعاء، 24 يناير 2018

عن فظاعة مخاوفي

قبل أيام قرأت كتاب (قصص ضائعة ) لماركيز ،كتب هادئ وممتع في قراءته، وهو كتاب يضم مجموعة من المقالات يقترب بعضها من لغة السيرة الذاتية والمذكرات، ويغلب على مجملها الطابع القصصي، تتنوع بين الأدب والفلسفة والنقد وأمور شتى، وتتنوع أيضاً الشخصيات بين الأدباء والمخرجين والسياسيين والكتّاب، يستطرد فيها ماركيز في الحديث عن معاناة النساء في عيش الحياة المرسومة لهن مسبقاً في مقالاً بعنوان "الزوجات السعيدات ينتحرن في الساعة السادسة" ، وأيضاً يتحدث عن ميتافيزيقيا الدروب في مقالة "أشباح الدروب" ويسرد فيها تفاصيل قصة عجيبة لأمرأة تقف على جانب الطريق ثم تركب سيارة مجموعة من الأشخاص لتحذرهم من منعطف خطر على الطريق، وبعدها تختفي تماماً، وفي مقالة "العظماء الذين لم يكونوا كذلك أبداً"  يتحدث عن وجهة نظره في الأدباء الذين نالوا جائزة نوبل، وأرتباط هذه الجائزة بخرافه شائعة بين الأدباء متعلقة بموت من يحصل عليها ، كمؤشر  أو علامة لقرُب أجلُه.
أما أنا ففي كل مرة أدخل فيها من أحدي أبواب الكتب ثم أنتهي منه، لا أكون أنا ذاتها التي كنت من قبل، أنها هذه القدرة المخيفة للقراءة هلى صفعنا بتلك اليد الجافة. إن هذا النوع من الكتب التي لا تنتهي بعد الانتهاء من قرأتها، بل تقودك - رغماً عنك- لتبدأ بعدها رحلة سرية لا تتوقف خلف أسور عقولك مع غرابة أفكارك.

ومن بين كل هذه القصص الضائعة لماركيز فقد نجحت مقالة " أبهة الموت "  في أثارة مشاعر غضب وشفقة عميقة داخل نفسي نحو كامل جنسنا البشري، وتركت داخل عقلي المسكين ألف سؤال وسؤال يصارع كل منهما الآخر، وما كان هذا الصراع إلا بداية لطوافان جديد من الأسئلة والأفكار التي لا حصر لها.
وقد يكون ما أثار داخل نفسي هذا الفزع
هو أن تفاصيل هذه المقالة تحديداً -أبهة الموت- تقاطعت مع بعض المخاوف لدي، فأنا حقا ترعبني صيغة الجمع في مواجهة المفرد، المجموعات في مواجهة الفرد الواحد، المرضي في مواجهة الطبيب، التلاميذ في مواجهة الأستاذ، الحكام في مواجهة المواطن ... الخ

فكرة إلغاء الأنسان بكل ما يحويه من اتساع لأفكاره ومشاعره لتغليب ونصرة صفته الاعتبارية المؤقتة التي يمثلها "الآن" ليتعامل معنا من خلالها، إلغاء الإنسان لتغليب النمط أو القالب الذي وضع فيه ويمثله، عندها ينسى الطبيب أنه يواجه إنسان يتألم ليبقى بالنسبة له مجرد "حالة" ، ينسى الأستاذ أنه يتعامل مع طالب له ذاته الخاصة ويفكر بشكل فردي ، ويتذكر أن ما يواجهه هي مجرد أجساد تجلس علي المقاعد، وبطبيعة الحال الفكرة نفسها تتكرر مع باقي الأدوار في الحياة.
يتحدث ماركيز في هذه المقالة عن جمود الروتين اللعين، والمأساة التي تخلقها البيروقراطية ويتناول هذا من خلال وكالة لدفن الموتى، يصل بها الامر إلى أنها تسوق للموت بنشرات دعائية أقرب ما يكون إلى الرحلات السياحية، وبفعل التعامل اليومي مع الأموات تُخلق حالة من الاعتياد يفقد فيها الموت هيبته وجلاله وتجعل الموظفين في الوكالة المذكورة - تُجار الموت كما أسماهم ماركيز -تتعامل مع الموتى وذويهم بطريقة مجرده من الرحمة، طريقة آلية باهتة خالية من آية مشاعر أنسانية.
يحكي ماركيز أنه ذهب ليشهد مراسم حرق جثة لصديقه، فيجد التوابيت التي أشتراها عائلات الموتى لتضم جثامين أحبائهم قد أصبحت بلا فائدة فبعد انتهاء مراسم الدفن، تقرر الوكالة بيعها من جديد لعائلات موتى مستقبلين.
يصاب ماركيز بالذهول من طابور الانتظار الطويل للجثث التي ستحرق وذويهم، وبعد الانتظار لساعات يقترح  عليه احد الأشخاص أن يذهب هو ومرافقوه، ثم يعودوا في اليوم التالي مبكرين ليكونوا أول من يصل حتى يتمكنوا من أتمام مراسم الحرق، والموظف الوحيد في هذه الوكالة يفسر هذا الأمر بلهجة خبازين الأفران فيقول لهم  "الفرن مشغول، والفران وهو في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات" !
ثم يختم ماركيز مقالته بقصة تحمل الكثير  من البشاعة بين سطورها، قصة عن أمرأة من الطبقة المتوسطة، باعت كل ما تملكه ليحظى زوجها بجنازة أكثر رقي وأبهة من إمكاناتها الطبيعية، وقد كانت كل الترتيبات تبدو جاهزة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد تجار الموت في وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مذكور في العقد، وهذا يعني أن عليها دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن، فتخبره المرأة أنها انفقت كل شيء معها ولم يبقى لديها ولا قرش، فيقترح عليها الموظف حلًا بصوته الهادئ ويقول " أرجو منك  أن تمنحينا تفويضا لنشر قدمي الجثة."
وبالطبع لن تقبل بهذا الحل المرعب، وما كان عليها إلا أن تجد المال بطريقتها ليدفن زوجها كاملًا.
ومن أكثر الأسئلة والمخاوف رعبً هو هذا الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني.
إلي إي مدي يمكن لإنسانيتنا أن تصمد في مواجهة الروتين والبيروقراطية وبشاعة سُبل العيش ؟
أو بالأصح هل مازالت إنسانيتنا موجودة أصلًا أم سحقت تحت وطأة مأسي جنسنا البشري ؟
 هل مازالت صامدة كاملة أم أن أجزاءً منها قد تم استئصالها لتلائم المقاسات المحدد لبشاعة الوجود ؟

الخميس، 7 ديسمبر 2017

لا شيء علي الاطلاق ..

من أين يأتي الحزن الذي لا مصدر واضح له ولا أسم؟ كيف يبدء؟ كيف يظهر علينا؟ هل أنا لدي فجوة في روحي يأتي منها؟ كيف يهدم المدن الجميلة التي كانت يوماً ما داخلنا و يجعلها رُكـام ، تلك المدن المليئة بالأضواء والموسيقي والشغف للمعرفة وإكتشاف الكون ، لا يوجد للحزن موسيقى لائقة و لا مزاج محدد حتى نتهيأ له قبل أن يدخل علينا بثوبه الرمادي ،فهو يأتي بغّته مثله مثل الموت والحب .

في الخريف والشتاء تطول ساعات الليل وعليه أيضا يطيل الأرق ساعات زيارته لي ، والأسوأ منه ذلك النوم المتقطع الذي يوقظني منه حلم ما أو حركة القط بجانب السرير بعد كل ساعة أو ساعتين. في الظلام أحدق وأفكر ربما كان وجودي ليس هو الا فكرة في رأس أحدهم وستنتهي حالما يهز عابر سبيل كتف صاحبها بمحض الصدفه ، كأن وجودي هو إحتمال معلق علي حافة الخيال !! أفكر ربما أن أحلامي التي أراها وتوقظني مطمئنة أو فزعة ربما حتى هي كانت تخص شخصٍ آخر في مكانٍ وزمان آخر ، عجيب هذا العقل الذي يعطي ما يشاء من تصورات لا يمكن السيطرة عليه !
 أفكر هل تعبرنا الأيام لتنتهي منا ام أننا نعبرها لنكتشفها ، كيف تنقص منا لتكتمل،  ورغم هذا لا تبدو كاملة ابداً في أعيننا، هذه الأيام السريعة البطيئة التي تنقضي بشكل أطول من اللازم وأقل من المطلوب ، تنقضي تاركه آثارها علينا كندبات لا يمكن ان تختفي ابداً ، بل أن هذه الندبات تظل تتراكم وتتراكم  بداخلك مثل التصدعات التي تتسع في المباني وتهدمها، تفعل هذه التراكمات مثلها في قلبك تماماً ، أشعر إني كمن فاته أخر قطار للآلحاق بأحلامه، عاجزه حتي عن معرفة ما الذي يتوجب علي فعله ،إنه ذلك العجز حين لا تستطيع حتى أن تصف حياتك بالخراب، عندما لا يكون هناك أصلاً ما تم بناؤه فهكذا لا يمكن أن يحدث تدميره.
أفتح مفكرة هاتفي  لأكتب شيئاً
 "ماذا فعلت اليوم؟"
لا شيء علي الاطلاق .. 
أعلق بهذه الجملة في نصف سطر وأغلق الهاتف ليعبر اليوم وينتهي.
كل شيء يحدث هنا هو نسخة مشوهة وتافهة من الأشياء الطبيعية الممتعة ، بيئتنا تسمم كل شيء تقريباً ،أحيانا انظر من حولي وأري الجميع قد فقدوا عقولهم ، أري هذا الجنون الناتج عن الفرق بين ما أعتدنا كونه حقيقة لا يشوبها شائبه ، وكنا قد أمنا به دوماً ،وبين ما رأينها وتعلمناه بالتجربة القاسية تلو الأخرى ،أري كيف أننا الآن نجد أنفسنا وسط حطام من الفوضى والضياع ،  حتي أنه بات من المستحيل إستشراف المستقبل الذي أصبح أكثر غموضاً وتشابكاً ، فأدرك وقتها أن التجارب القاسية اليوم باتت جماعية أكثر منها ذاتية .
ويمكننا ببساطة أدارك هذه الحقيقة من خلال هذا العالم الإفتراضي الذي منحنا كامل الحرية لإظهار ما بداخلنا من جمال ، ومن بشاعة ، فبفضل وجودنا فيه الذي يشبه الذهاب إلى تجربة أداء فيلم تاريخي عظيم ،يظهر الجميع فيها أقصي ما عندهم حتي يتم قبولهم ، ولا أعني التمثيل في تشبيهي هذا ،أنا فقط أردت إيضاح هذا الكم الهائل من التفاني في أداء شخصياتنا .. فأنا لا أعرف قطعاً هل نحن نُظهر المعادن الحقيقية لشخصياتنا بمعرفتنا المختارة أم اننا ندعي؟
 لقد شاهدت الكثير من حولي يكتب عن أحزانه وخسائره ، وشاهدت الكثير من الردود المُطمئنة والمواسية ،وشاهدت أكثر من الردود الساخرة والمتأففة .. ماضر هؤلاء؟ ماهي مشكلتهم بالضبط مع من يعبر عن حزنه او مأساته! حتي لو كُنت غاضبة ناقمة كل الوقت فأنا لدي أسبابي بالتأكيد التي في مجملها لا تهدد راحة أو طمأنينة أو سعادة وتفاؤل أحد.
 هل يجب أن ندعي الثبات والقوة الزائفة ونصطنع السعادة والتفاؤل ونظهر بأبهى حلّة ونتبني النظرة الإيجابية الباردة التي تغتال صدق مشاعر الإنسان ! هل يجب أن يقتصر وجودنا في هذا العالم الإفتراضي على إظهار جانب واحد مثالي فقط! الم تعطيك مثل هذه الأمور انطباعاً زائف عن الإنسان!

أعرف جيداً أنه من طبيعة بعض البشر إنهم  لا يمتلكون السعة في الإنصات، خصوصاً لو كنت تتحدث لهم عن أوقات حزنك التي لا نهاية لها ،ستجدهم لا يلقون لحكايتك أذناً ، أو سيقومون بتسخيف همومك وتأطيرها بلا مبالاة ، أو ربما ستجدهم يستعرضون أمامك قواتهم وصلابتهم في مواجهة حياتهم المليئة بالأحداث والانجازات، لا يتمتعون بالإرتياح لرغبتك الصادقة بالحديث بلا نية لقلبك بأي مواساة أو كلمة ضماد،  لم يتفهموا أن كل ما توده هو إلقاء مشاعرك من جرف روحك.
ولكني أعتقد أن هذا التراكم الهائل والمخيف للحزن داخل قلوبنا جعل من العزلة ملجأ أول وأساسي داخل الأشخاص، كلاً منا يحمل جحيمه الخاص بداخله ويهيم فيه ،يحاول البعض وأنا منهم طبعاً فهمه، أو الوعي له، ولكن المرهق في هذا أنه ليس هناك معلم يشرحه سوى اجتهادات نفوس أصحابه والتي ستقضي علي هذه النفوس بدورها .
لهذا ربما كانت الكتابة والجنون أيضاً في هذا العالم أراحوا الكثير منا ، فهذه هي الحرية الجديدة المتاحة التي اختبرناها جميعاً ،ولكن ما يزعجني حقاً أن هذا العالم لا يحترم أحزاننا الصغيرة ، تلك الأحزان الصغيرة التي توجع لكن لا يمكنك الحديث عنها.. تماما مثل حزن كومبارس دعى أصدقائه لمشاهدة العرض ، تأخروا قليلاً في الحضور ، فانتهى دوره فيه.
يزعجني أنه لا أحد يقف للحظة حتى يفكر بهذه الأمور كأحد أكثر أشكال المواساة إنسانية ورحمة .
بالنهاية لن تترك الأشياء واجباتها الكونية من أجلنا ، لذلك ربما علينا نحن أصحاب الحظ العاثر ، الحزاني المكتئبين ،ربما يجب علينا أن ننشئ حزباً ما، أو نذهب لكوكب آخر أو حتى نختار جزيرة معزولة نُسميها جزيرة الخاسرين ، ثم ننقرض فيها بصمت وسلام .

‏‏






























الاثنين، 9 أكتوبر 2017

ضجيج الأنا



في لحظة ضيق وحزن ليست غريبة علي، وكوسيلة مستهلكه لتحسين الوضع والمشاعر التي أشعر بها، حاولت أشغال عقلي بفكرة ما، فوجدت نفسي أتذكر جملة غريبة من فيلم شاهدته قبل عدة أشهر تقول فيما معناه: "نيويورك... مدينة مليئة بالضجيج ،ليس ضجيج زحام شوارعها فقط ولكنه ضجيج الأنا وكأن كل الناس تصرخ بأناتها" 
ثم وجدت نفسي أتسأل: كيف تجد ذاتك وسط ضجيج الأنا؟ كيف يمكنك أن تتصورها أو تصيغها في عدة أشياء أو تصرفات تمثلك؟ كيف يمكنك أن تفرض وجدها وهي تثبت وجودك من خلالها؟ وكيف تحافظ علي هذا؟ كيف تتأكد أنها الآن وفي هذه اللحظة حقيقة صادقة وليست صورة لأشخاص وقعت في فخ أناهم ؟
‏ليست نيويورك وحدها التي تضج بصراخ الأنا، جميعنا كذلك ،أنت لست معفي من صراع الأنا داخلك لتظهر بشكل مثالي في لحظات، أو بحقيقتك المجردة في لحظات اخري، ربما هذا شكل من أشكال التمرد لإثبات وجودنا علي قيد الحياة اصلا، فالإنسان يخوض في الحياة معركة مصيرية كبرى عنوانها (أنا)، ربما الحياة بكل صورها هي ضجيج من الأنات، أنات تقاوم وتصرخ لتثبت وجودها، ولكن السؤال الوجودي الذي يفرض نفسه الآن: لماذا في كثير من الأحيان يضيع وجودك بكل ما تحمله من أفكار معقدة، وصراعات داخلية،  وهدوء خارجي، يضيع مع انبهارك في صراخ أنات الآخرين؟يسرق منك دون قصد، كيف تكون أنت في كل الأوقات، دون مبالغة في أظهار وجودك، أو اجحاف في حقك، كيف تقاوم لتظل في الوسط .

أعتقد هذه معركتنا جميعًا ضد الإستلاب، إستلاب ليس لشئ من ممتلكاتك ولكن إستلاب لشخصك ولجوهرك، هذه معركة يخوضها الإنسان ضد العالم كله بدئًا من سلطة العائلة ووصولًا إلى لسلطة المجتمع والدولة، وتحديدًا هي معركة ضد أنات الأخرين التي تصرخ من حوله لتثبت وجودها هي الأخري، فمثلًا الكون والطبيعة أشياء يمكن للإنسان أن يقترب منها ويلمسها، أو حتي يجد نفسه يتوحد معها في بعض اللحظات، لكن الذي يصعب عليه التوحد معه، هو جنسه البشري‏، والغريب هنا أنني غالبًا ما أكتشف ذاتي من خلال الغير، أكتشف مشاعر في داخلي وجوانب مختلفة من شخصيتي عبر كل الأشخاص من حولي، وأيضًا أهم سبب ليفقد الإنسان ذاته وتضيع أناه يحضر عبر هذا الغير، وهنا تأتي المفارقة القاتله، كيف أعيش معركة لإثبات ذاتي، وإكتشاف من أنا، وما هو مكاني في العالم، ومالذي يريده مني وما الذي يرفضه، وما الذي أريده أنا بالتحديد ،وكيف أري العالم من حولي والطبيعة،والمجتمع، والإنسان ... الخ، وفي نفس الوقت يمكن لكل خطوة واكتشاف أن يقودني إلى منعطف وكل منعطف يمكنه أن يكون طريق للإستحواذ علي وجودي!
‏كافكا كان يتسائل: "كيف أصبحت الشخص الذي أنا هو؟ هل أنا نفسي فعلًا، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخص الذي أنا هو؟" أعتقد جواب هذا السؤال سيكون ولادة جديدة لأي شخص.
‏أعلم أنني أصغر بكثير من كل هذه الهذيان العقلي الذي ذكرته في الاعلي، وليس لدي القدرة ولو بقدر قليل علي تفسير تقلبات النفس البشرية وتحليل نزاع الإنسان مع نفسه ومع الأخر والغوص في هذه الصراعات الإنسانية ،وأقل شأن من أن أجد إجابات لمثل هذا النوع من التساؤلات ، ولكن هناك دائماً تساؤلات ليس لها اجوبة شافية، وفي الحقيقة هذا الأمر يجعلني أشعر أحيانًا اننا مجرد كائنات مبرمجة ليس لها عقل أو أدراك أو قدرة علي التحليل والاستنتاج، والمجنون بيننا هو الشخص الوحيد الذي كسر هذه القاعدة ووجد إجابات ترضيه .
هذا النوع من المواضيع التي قد يراها البعض لا تشكل فارقا حقيقيا في حياة أي منا، أري أنها من أهم الموضوعات التي لا تحظي بالخوض فيها لكثرة الأغلفة الضبابية التي تحوم حولها، وكل محاولة للكشف عن مكمنها هي محاولة مثيرة ومرهقة ذهنياً، ولذلك أكتب عن هذه الأشياء التي لا أكاد أستطيع حتي وصفها بصيغة جيدة، ولكني أكتب عن الأفكار التي تقطع طريقي وتعثر بي، أكتب دون نية في قول شئ بعينه، فهذه الكلمات هي خطوات لأصابعي في منطقة شديدة الظلمة في عقلي، لا ضوء فيها غير ما ينكشف مع الكلمات عبر كل خطوة. ربما تكون هذا محاولات لعدم مصادرة وجودنا وأرادتنا الحره .

الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

السنوات المتراكمة



 منذ سنوات أدركت أنه يجب ألا أنتظر من الحياة مستقبل مشرق، أدركت أنه بأنتظاري عواقب وخيمة متلاحقة، بساط لا نهائي من "العواقب الوخيمة".


ولكني اﻷن في تساؤل عديم الجدوى حول حالتي هذه،
فحالتي الأن تشبه حالات كثيرة من عدم الأستقرار والتشتت وضياع المعني في الحياة، أترى هذا بسبب نظام نومي الغبي، أم أنه بسبب هذا الشعور بالأختناق، هناك أمور تحدث ولكن يصعب عليّ الحديث عنها هنا، يمكنني أن أصف هذه الحالة بأختصار أنها حالة وجودية سماها احد العابرين بحياتي يومًا  "بلوك"، ربما تأتي هذه الحالة في اللحظات الأكثر روتينية في حياتي، والتي تتكرر كل عام بطريقة مملة، الأشياء ذاتها تكرر نفسها كل يوم بطريقة دراماتيكية تدعو للتقيوء، لا شيء جديد، فقط الأيام تمضي لتتراكم خلفي السنوات، وكل ما أفعله انا أنني أنجو بطريقة ما، أخفض رأسي في مواجهة كل شيء وأنتظر مرور سرب طويل من الخيبات لتمضي مع السنوات.
لكن لحظة .. أنا أحاول تجاهل حقيقة أن أغسطس قد حل، وأن عامًا أخر قد مر دون تغير ..
أعتقد انه هناك مرحلة عمرية معينة ستأتيك، تنظر فيها كثيرًا إلي الوراء وتتسائل إلى أين أمضي؟!
‏ولكن في هذه المرحلة سيكون السؤال حادًا وعميقًا ،لن تستطيع أن تتجاوزه بالكتابه عنه، ولا بمحاولاتك التافهه للعيش علي سطح الأشياء، ولن تجد جوابًا مرضيًا، ولن يختفي خلف ضجيج الحياة كما تفعل بقية الأسئلة.
لذلك أنا الآن أحاول أن أحلل موضوع هذه الأزمة الوجودية ..

في مقتبل الثلاثين لا ينتهي الفرح ولا تجف منابع الدهشة داخلك من الحياة، لكن شعور الفرح والدهشة تدفعهما فكرة الخوف وليس الشغف، تدفعهما فكرة الفقد والتشبث، فتصبح بذلك فكرة اختلاق الفرح ترفًا من ترف سنواتك في العشرينات، حين كان هناك متسع للضجر من التواصل والناس والحب والدهشات.
 في مقتبل الثلاثين تسيطر عليك فكرة الهرب من العزلة وليس الهرب إليها، فيصير هذا الفرح مرتبطًا بفكرة الخوف من الفقد، فقد شخص، مكان، حاله أو شعور داخلك، كأنه وضع أقرب مايكون للصفقة، مساومة وسباق مع الفجائع المتظراك في القائمة، أفرح قبل أن أفقد، أفرح لأن الأشياء ليست لي وليس بوسعي امتلاكها فأهلل فرحًا لعبورها السريع بي ..


في مقتبل الثلاثين يظل في القلب متسع للحب، لرعشة الشوق ودفئه، لكنه حب بلا يقين، حبًا ساخرًا من فكرة الوعود اللحظية، قَلِقاً من فكرة الأبدية، حبًا بعين أطالت النظر للخراب الهائل الذي خلفه التطاول في الأحلام، حبًا بقلب اختبر نفسه بأن يصير شظية ونهض من رماده متعثراً، حبًا بيد مرتعشة جربت مرارًا السقوط في الفراغ والخيبات ففقدت يقينها بالتمسك بالأشياء.

في مقتبل الثلاثين نعم يكون هناك متسع للأيام الجميلة المبهجة، تلك التي تمر فيها عقارب الوقت ونحن في غفله دون أن نشعر بسميتها، وتمضي ثوانيه وكأنها تربت على قلوبنا، لكن الشعور بالوقت ليس كما شعورك الأول به، الوقت عندها يتضاءل لكثرة ما تفرق وتاه في محاولات فاشلة للسعادة، تستمر الساعات في التقلص كلما زاد تراكمها الذي تركناه في الخلف، تراكم كل يوم يدفعنا إلى الأمام .. إلى الهاوية.

أخيراً .. لقد فكرت بكل الأسباب المحتملة التي من شأنها أن تشعرني بهذا القلق الوجودي الذي يأتي بحلول ذكري يوم ميلادي، ولم أجد سببًا منطقيًا واحدًا يرضيني رضا كامل، فكل ما ذكرته في الأعلي اساسه أفكار أعتدت عليها، هذا شيئًا معتادًا بالنسبة لي، فلماذا إذن هذه الحالة الغريبة! ولكن بطبيعة الحال عقلي الغريب دائمًا عامر بالأسباب اللامنطقية، او ربما ‏أنا شخص لديه ميل طبيعي للكآبة، شخص تلمع عيونه دائمًا بشكل حزين أو شيئا من هذا القبيل .

ولكني حزينه الأن من اجل الأشياء، الأشخاص، المشاعر والأماكن التي سأخسرها في السنوات القادمة، حزينه لأن الشعور بالخسارة لن يكون له وقع الخسارة الأولي والثانية، لن يكون له تأثير شعوري قوي لانه جاء بعد سلسلة كبيرة من الخسارات، اعتيادك علي الخسارة، الاعتياد الذي يعني مرورك علي الشيء مرات لا تحصى و مروره عليك ألف مرة ومرة ، حتي يأخذ منك كل دهشة وترقب، إلى أن تفقد ملكة الانتباه إليه وإدراك تفاصيله، السيء منها والجميل.
حزينه ﻻني سأترك كل الأشياء -مهما كانت ثمينة- تذهب دون أن أقدم على أي مقاومة للتمسك بها، لقد تمسكت بالكثير والكثير من الأشياء والأشخاص في السابق حتى جرحت أطرافي عندما غادروني، أو حتى عندما تخليت عنهم شيئًا فشيئًا، لم يبقى أي شيء لأني تمسكت به، بل ذهبت الأشياء لانها كانت تريد ذلك بكل بساطة .

ولكننا كلما كبرنا وازددنا وعيًا وننضجًا، كلما أصبحنا أكثر تقنينًا في كل شيء، فالنضج يمنحنا فرصة أن نتوقف عن الإفراط في ردات الفعل، وحتى في العواطف والشعور. 



الثلاثاء، 11 يوليو 2017

صور مشوشة وغامضة



ما الذي يدفعني للكتابة الآن رغم ما أشعر به من أرهاق نفسي وجسدي وعقلي !
هل هو هذا التخاذل المقيت عن الحكي والثرثرة مع الأخرين ،فقدان الرغبة في الحديث من كثرة ما أستخدمنا من كلمات لم تستطيع أن تعبر عنا بدقة ؟ أم هي الرغبة في الأحتفاظ بمتعة مختلفة يمارسها عدد قليل من الناس.
الحقيقة لا اعرف الجواب كعادتي ،فأنا دائمًا ما أطرح الأسئلة بعجز وعبثية ،وربما هذا فقط لكي أجد اليوم مدخﻻً للكتابة .
منذ أكثر من شهر وانا احاول جاهدة الكتابة عن مشاعري خلال تجربة مررت بها، تجربة تذكرني بعنوان رواية لعبده خال أسمها "الموت مر من هنا" ،ولكني بكل ما أوتيت من عجز لم أستطع تحديد مشاعري حتي الآن تجاه التجربة ككل ،لذلك فشلت في المحاولة .

كل هذه المقدمة أعلاه التي لم يكن مخطط لها أطلاقًا في حقيقة الأمر كانت فقط لأقول أن هناك شيئًا عالق في قلبي كالعادة ولا يمكنني قوله او كتابه ،لذلك ستكون هذه محاولة عبثية مهترئة لكتابة أفكار رمزية تحوم حوله ،ربما ستخفف هذه المحاولة من ضغطه علي القلب والخاطر .
يتترد في ذهني الآن بعض الأسئلة ..
ما الذي حدث لأحدهم حتي يكون وحيدًا في مثل هذا الوقت ؟ ما الذي تعنيه الوحدة لكلا منا علي وجه الدقة ؟ ما القصة التي حصرته الحياة بها ليأخذ فيها دور البطولة كفأر عالق في مصيدة لا يستطيع الأفلات منها ؟ ولماذا أشعر أنا بالحزن الآن لمعرفة أن هناك أشخاص في هذا العالم لم يحصلوا علي الحب الكافي حتي ولو بدو لنا سعداء.
احيانا أشعر بأن المواساة رغم أنها تعزز من الشعور بالألم والمصيبة إلا انها امر ضروري حتي لا نشعر بالوحشة ،من الضروري أن يجلس أحدهم بحانب الأخر ليضم يده ويقول له سينتهي كل شئ قريبًا وبعدها كل شئ سيكون علي مايرام ..
خلال الفتره الماضية كانت هناك أيام شعرت فيها بأنحناء روحي كجسد امرآة عجوز ،شعرت فيها بأنحناء روحي وأنا أمشي بأقدام مثقلة أنهاكًا وتعبًا ،أجرهما من السرير الي المطبخ لأتي بزجاجة ماء ،في الليل لا أنتظر نومي فأنا أعرفه رديء الجودة، في الصباح أدخل الي الحمام تبدو لي فكرة الاستلقاء في حوض الاستحمام وسماع الاغاني التي تعزز الشعور بالياس والكأبة فكرة جيدة وتناسب حالتي ،استلقي هكذا لا اعرف في اية وضع اكون ،أشعر ان هناك شئ يخترق جفني، مغمضة العين أتألم، مبصرة أيضاً أتألم لا يريحني الاستلقاء ولا يستقبلني الجلوس، ورغم هذا أتباين بينهما ،اجلس هكذا للتأمل في عتمة الحمام المغلق ، أتأمل الضوء الذي تشكل على الجدران علي هيئة خط رفيع دقيق ،أقول في نفسي هذا قلبي ، هذا المكان المظلم قلبي ، وهذا النور الخافت أعرفه بالضبط ماهو ،أعرف فيمن تجسد ،اعرف انه انت .
لم يعد لدي ذلك الصمود الأنيق في الأونة الأخيرة ،تغير الأمر كثيرًا ،بات كل ما يمر علي بكلمة عارضه وغير مقصودة يخدشني فورًا لتسقط دمعه دون وعي ،يضرب الوجع المتسلط بكل أشكاله مهارتي السابقة في التحمل ، يراودني احساس ضاغط بالضيق وكأن احد شرايني أنفجرت وبينما الدماء تسيل تتسرب الحياة معها ،وانا اقف هناك اشاهدها بكل عجز وبلادة، أشعر بقلبي كشيء ثقيل علي صدري لم اعد اقوي علي حمله ،فأتساءل ما الذي سيحدث حين تتراكم الآلام ولا تعود محتملة، ربما سأموت، أو ربما تفتك بعضها البعض واتخلص منهم جميعا ،اصمت هكذا ثانية لتاتي الفكرة المعتادة في رأسي ،ثم أردد بعدها الجملة المعتادة أيضًا: أود ان احمل مسدس واوجهه لرأسي تحديدا وأطلق رصاصة ثم أقف أضحك على سيلان الوجع مع الدماء  فيخرج ببطئ ولزاجة ،لكنه الآن لا هوية له بدوني، ثم بعدها أعود لوعي فأدرك أن هذه الحياة اللعينة تؤلمنا بتفاهتتها وجديتها في نفس الوقت ،فقد ضحت بالفانتازيا عند أول نوبة غضب ،فأذكر نفسي وأقول ان الميزة الوحيدة للآم احيانًا أنه يجعلك تكبر بطريقة لم تمر يومًا بمخيلتك.

ذات يوم سألتني صديقتي لماذا تاتي التغيرات الجذرية في حياتنا او شخصيتنا دائمًا بعد التجارب القاسية ؟هل تغيرت الحقائق ام انها كانت أوهام ؟ صمت ثوان ثم قلت لها أعتقد ان الحقاق لا تتغير انها تظل ثابته ،ولكن بعد التجارب القاسية تصبح الحقائق أكثر وضوحًا وتظهر عدة جوانب اخري للحقيقة الواحده ،مزيد من الجوانب التي كانت تخفي علينا تظهر جلية لنا ،تزول تلك الأوهام التي صنعناها ربما بانفسنا لتغلفها ،لتبقي الحقائق فقط ماثلة امامنا.

كنت أريد ان اتخذ دور المتفرج في الحياة ، ولكنها لاتزال تقحمني في مواقفها المتصارعه .